الصين تغيّر المفاهيم في أفريقيا
يمكنني أن أقول بثقة: إنّ الصين اليوم أصبحت جزءاً من الحياة اليومية لمعظم النيجيريين وعموم الأفارقة. سواء في أدوات المطبخ، أو الملابس التي نرتديها، أو فرص العمل المحيطة بنا، يمكن رؤية بصمة الصين في كل مكان. يوجد اليوم في نيجيريا أكثر من مئتي شركة صينية، توفّر عدداً كبيراً من فرص العمل للشباب. يمكن القول: إنّ الصين اندمجت بعمق في حياة النيجيريين. في الوقت نفسه، فإنّ التبادل الثقافي بين الصين ونيجيريا نشط للغاية، إذ تقيم معاهد كونفوشيوس والمراكز الثقافية الصينية فعاليات أسبوعية تقريباً. لقد أصبحت العناصر الصينية جزءاً من نسيج المجتمع النيجيري.
- كيف يرى الأفارقة والنيجيريين الصين اليوم؟
كثيرون يتساءلون: «كيف وصلت الصين إلى ما هي عليه اليوم؟» جميعنا نعلم أنّ الصين في الماضي لم تكن دولة غنية، لكنها اليوم أصبحت قوية ومؤثرة. فكيف حقّقت ذلك؟ هذا سؤال يشغل بال الكثير من النيجيريين.
- ما رأيكم في تأثير الدراسات التي تحمل طابع المركزية الغربية في الأوساط الأكاديمية الأفريقية عند بحثها في الشأن الصيني؟ وما الذي يميّز الدراسات الصينية عنها؟
يمكن القول: إنّ هذه المشكلة شائعة جداً، فليس في نيجيريا وحدها، بل في معظم أنحاء أفريقيا تسود رؤية تدرس الصين من منظور غربي، وغالباً ما يُنظر إلى الصين من خلال عدسة الإعلام الغربي، الذي يحاول إلصاق شتّى الصفات بها، مثل: «السلطوية» و«مشكلات حقوق الإنسان» وغيرها من المفردات التي أصبحت بمثابة قاموس ثابت للدراسات الغربية عن الصين.
لكن اليوم، هناك عدد متزايد من الباحثين الأفارقة يسعون إلى التحرر من هذا المنظور الغربي في دراسة الصين، والانتقال إلى فهمٍ أكثر واقعية، يحاول استيعاب الصين من داخلها، من خلال تجربتها الخاصة. يمكن القول: إننا نشهد اليوم «إعادة تعريف» للدراسات الصينية في أفريقيا. أصبحت الموضوعات التي نتناولها تدور حول نماذج التحديث، والتعاون الواسع بين الصين وأفريقيا، مثل: التعاون السياسي والاقتصادي، والتواصل بين الأحزاب، والعلاقات الشعبية، ومبادرة «الحزام والطريق» ... وهذه القضايا أصبحت حاضرة بقوة في النقاش العام النيجيري، كما ازداد تناولها في وسائل الإعلام.
في الآونة الأخيرة، كانت نيجيريا من أوائل الدول الأفريقية التي استجابت بحماسٍ لمبادرة الرئيس شي جين بينغ حول «مبادرة الحوكمة العالمية». وقد أعلنت حكومتنا أنّ هذه المبادرة تتماشى تماماً مع تطلعاتنا إلى نظامٍ عالمي أكثر شمولاً، وآليات حوكمة أكثر عدلاً. وكانت نيجيريا من أوائل الدول التي أصدرت بياناً رسمياً تأييداً لها.
لذلك أرى أنّ الصورة النمطية التي كانت ترسمها الخطابات الغربية عن الصين في أفريقيا تشهد تحولاً جذرياً. فالوقائع باتت واضحة أكثر فأكثر. الناس يرون التأثير الصيني الملموس في القارة، ويرون التغييرات التي أحدثتها الصين فعلاً. عددٌ متزايد من الأفارقة بدأ يتبنى نظرة أكثر موضوعية تجاه الصين. ومع ذلك، لا يزال الطريق طويلاً. فالصين لم تصبح بعد «إلدورادو - بلاد الذهب الأسطورية»، وما زال بعض الأفارقة أسرى لتحيّزاتٍ قديمة، إذ إنّ تأثير الغرب في منظوماتنا الأكاديمية عميق الجذور، ولا يزال البعض ينظر إلى الصين بعين الشك.
لكن التقدم واضح لا لبس فيه. الناس بدأوا يعرفون الصين كما هي فعلاً. ونحن– كباحثين مختصين في الدراسات الصينية– نسعى إلى تطوير أدواتٍ ومفاهيم جديدة وواقعية، وإرساء أطرٍ تحليلية مغايرة. نحن نركّز على مفاهيم التوافق والتشاور في التعاون الدولي، بدلاً من فرض الشروط، وعلى مفهوم الشراكة بدلاً من التحالف. نحاول إعادة تعريف المفاهيم الأساسية للعلاقات الدولية، ليفهم العالم أنّ الصين ليست «غرباً آخر»، بل أمة لها تقاليدها التاريخية الخاصة، وكان لها تواصل طويل مع أفريقيا عبر التاريخ.
هذا الوعي بدأ يجد صداه في المجتمع النيجيري. فعددٌ متزايد من الأفارقة بات مهتماً بدراسة الصين، لا من خلال مرآة الغرب، بل برغبة صادقة في فهمها من منظورها الذاتي. هذا الاهتمام أكثر صدقاً، ويتيح فهماً أكثر موضوعية.
- ما اقتراحاتكم لتعزيز التبادل بين الشباب في الصين وأفريقيا؟
بالفعل، ازدادت هذه التبادلات في السنوات الأخيرة. هناك عدد متزايد من الشباب النيجيريين الذين يذهبون إلى الصين لدراسة اللغة الصينية، أو المشاركة في برامج تبادل أكاديمي. وعندما يعودون، تتغير نظرتهم إلى الصين كلياً، إذ يرون بأعينهم واقعاً مغايراً تماماً للصورة النمطية السابقة.
- وسائل التواصل الاجتماعي تلعب أيضاً دوراً مهماً. الشباب اليوم يمكنهم متابعة مثل هذه الحوارات لحظة بلحظة، ومعرفة ما يحدث على الجانب الآخر من العالم. هم أكثر فضولاً من أي وقتٍ مضى، وأكثر رغبةً في فهم سر نجاح الصين. وخصوصاً في الجانب القيمي: ما القيم التي أسندت إلى الصين قوتها التنموية، ومكّنتها من تحقيق إنجازاتٍ هائلة في فترةٍ وجيزة؟
بدأوا يدركون حقيقة أساسية: التحديث لا يعني بالضرورة التغريب. وهذه النقطة هي الأهم. الصين تقدم مثالاً حيّاً على أنّ دولةً ما يمكنها أن تتطور، وتحقق التحديث دون أن تنسخ النموذج الغربي. لقد حطمت الصين أسطورةً طالما رسّخها الغرب: أنّ الفقر قدرٌ محتوم لبعض الدول والمناطق. أثبتت الصين للعالم أنّ الفقر يمكن القضاء عليه.
وهذا الإنجاز ذو أهميةٍ كبرى لأفريقيا. فإذا كانت ثمة مأساة لا تزال تؤرق القارة، فهي الفقر. نجاح الصين في القضاء على الفقر المدقع، أصبح نموذجاً يُحتذى به لدى العديد من الدول الأفريقية عند صياغة سياساتها لمكافحة الفقر. الصين أصبحت رائدةً في هذا المجال، وقد أظهرت لشعوب أفريقيا أنّ الفقر ليس قدراً محتوماً، بل يمكن تجاوزه واستئصاله. وهذا ترك أثراً عميقاً في نفوس الناس، وخصوصاً الشباب.
في الوقت ذاته، أخذت القوة الناعمة الصينية تُظهر قيمتها الخاصة. فهي لا تعتمد على «الكوكاكولا» أو الموسيقى الشعبية، بل على منظومةٍ قيميةٍ تسعى فعلاً إلى تحسين معيشة الناس وخلق الفرص وتحقيق التغيير. إنها قوة ناعمة تُقنع الناس بالفعل لا بالشعار، وتدفعهم إلى إعادة التفكير في معنى التعاون الدولي.
مفهوم «المنفعة المتبادلة» الذي تطرحه الصين يلقى رواجاً متزايداً في المجتمع النيجيري، وفي الإعلام والخطاب العام. الناس بدأوا يؤمنون بأنّ «التعاون» لا يعني بالضرورة أن يربح طرف ويخسر آخر، أو أن تكون المعادلة «رابحاً يأخذ كل شيء»، بل يمكن للطرفين أن يربحا معاً. هذا التحوّل الذهني في غاية الأهمية للقارة الأفريقية بأكملها.
ومع أنّ بعض الأحكام المسبقة لا تزال قائمة، فإنّ التقدّم في فهم الصين واضح وكبير. نحن في مركز الدراسات الصينية الذي أعمل فيه، نبذل جهداً متواصلاً لدفع هذا التحوّل المعرفي قدماً. فالمفهوم الذي تطرحه الصين عن «الشراكة العالمية» يتيح فرصة تاريخية لبناء تعاونٍ دولي أكثر مساواةً وواقعية. هذه العلاقة لا تتطلب تطابقاً أيديولوجياً، ولا تسعى إلى تغيير أحدٍ للآخر. يمكن لكل دولة أن تحافظ على خصوصيتها وهويتها، وفي الوقت نفسه أن تتعاون مع غيرها.
هذا المفهوم بدأ يتغلغل في الوعي الجمعي للمجتمعات الأفريقية، ويصبح جزءاً من بنيتها الفكرية. ومع أنه تطور تدريجي، إلا أنه يمضي بثبات، وآفاقه واعدة. نحن نؤمن بأنه مع مرور الوقت ستترسخ هذه القيم المشتركة والفهم المتبادل بعمق، لتصبح قاعدة دائمة للعلاقات الصينية الأفريقية.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1248