بريتون وودز صيني جديد!
ما من عاقل يستطيع أن يوهم نفسه بأن عجلة التجارة العالمية يمكن أن تستمر في الدوران كأن شيئاً لم يكن، في ظل ما تقوم به الإدارة الأمريكية برئاسة دونالد ترامب من تصرفات وقرارات وتصريحات تثير الذهول. ومع ذلك، ورغم الغضب المشروع الذي نشعر به حيال ما يصدر عن ترامب وإدارته، لا بدّ لنا من أن نرى في هذه الفوضى فرصة تستحق الترحيب.
ترجمة: أوديت الحسين
فالعالم يقف اليوم أمام مفترق طرق: إمّا أن يُعاد التوازن إلى الاقتصاد العالمي، أو أن نشهد انهياراً قد يكون أشدّ وطأة من أزمة 2008 المالية. والسؤال الوحيد الجدير بالنقاش ليس «هل»، بل «من» يستطيع التحرّك لتصحيح هذا الخلل الذي يتمدد في الاقتصادات الغربية، والذي يضرب مصالح الدول النامية، ويوقف زحف الفاشية؟
نعلم جيداً أن الاتحاد الأوروبي لم يعد قادراً على خوض هذه المعركة. ويعود السبب إلى العيوب البنيوية في تصميم عملته الموحدة: اليورو، ورفضه في أعقاب أزمة الديون السيادية أن يحوّل المحنة إلى فرصة لتوحيد قراراته المالية والاستثمارية. وها هو اليوم غارق في ركود اقتصادي وانقسام سياسي مستمر.
أما الولايات المتحدة، فهي تفتقر إلى الرغبة في إعادة التوازن إلى الاقتصاد العالمي. فبينما يُكثِر وزير خزانتها، سكوت بايسنت، من الحديث عن ضرورة ضبط التجارة وتدفقات رؤوس الأموال، نرى أن الإدارة التي يخدمها تسعى إلى أهداف متناقضة: خفض قيمة الدولار من جهة، وجذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية من جهة أخرى. وهذا التناقض لا يمكن حسمه إلا من خلال تدخلات قسرية ضخمة، وهو ما تفتقر إليه أمريكا، سواء من حيث القدرة أو الانضباط.
فمن يتبقى إذن؟ الجواب البسيط: الصين.
في قمة العشرين في لندن عام 2009، طرحت الصين– في ذروة أزمة المال العالمية– مقترحاً جريئاً: إعادة النظر في منظومة بريتون وودز التي أنشئت عام 1944، وتبنّي الخطة التي تمّ تقديمها من قبل اقتصاديين غربيين منذ ذلك الحين، والتي تقضي بإنشاء اتحاد دولي للمقاصة.
لكن، كما رفضت الولايات المتحدة مقترح كينز قبل أكثر من سبعة عقود، تجاهلت واشنطن أيضاً الطرح الصيني. وكانت النتيجة ستة عشر عاماً من تفاقم الاختلالات الاقتصادية، وصلت اليوم إلى حدود الانفجار.
فإذا كانت أوروبا عاجزة، وأمريكا غير راغبة، فما الذي يمكن أن تفعله الصين؟ الجواب بنظري: بناء نظام بريتون وودز جديد لا يضم لا أمريكا ولا الاتحاد الأوروبي في مرحلته الأولى. نظام يبرهن على جدواه، ثم يستقطب الدول الأخرى تدريجياً.
وأرجو ألا يُساء فهمي. أنا لا أدعو الصين إلى تكرار سيناريو الهيمنة الذي مارسته أمريكا في النظام القديم. بل أدعوها، بالتعاون مع دول البريكس وسائر الشركاء، إلى تأسيس نظام تعددي حقيقي، هو ذاته النظام الذي كان يطرحه اقتصاديون غربيون ويتصوروه عام 1944، قبل أن يُجهضه الرئيس الأمريكي روزفلت، ويستبدله بترسيخ هيمنة بلاده على العالم.
كيف يعمل النظام الجديد؟
قبل أن أشرح آلية عمل هذا النظام الجديد، لا بد أن أتوقف عند بعض الاعتراضات التي قد تُثار في الغرب. سيقول قائل: إن الصين لا تصلح لقيادة نظام تجاري عالمي لأنها تفرض قيوداً على رؤوس الأموال. لكن ألم يُبنَ نظام بريتون وودز القديم– وحتى مقترح الاقتصاديين القدامى ذاته– على مبدأ ضبط تدفقات رأس المال؟
وقد يقول آخرون: إن الدولة التي تكون في قلب نظام تجاري عالمي يجب أن تسجّل عجزاً تجارياً دائماً، كي تمنح الدول الأخرى فائضاً يمكنها من تمويل تجارتها. لكن ألم يكن الغرض من النظام القديم هو تثبيت الفائض التجاري الأمريكي؟ هذه الاعتراضات ليست سوى تبريرات مغطاة بمزاعم اقتصادية زائفة.
والآن، كيف يمكن للنظام الجديد أن يعمل؟
سيحافظ كل بلد على عملته المحلية وعلى بنك مركزي مستقل. إلا أن كل معاملات التجارة ورؤوس الأموال بين الدول ستُحسب وتُسجّل عبر وحدة محاسبة رقمية مشتركة، ولنطلق عليها اسم «العملة الكونية Kosmos». وسيتم إنشاء مؤسسة متعددة الأطراف تفتح فيها كل دولة حساباً احتياطياً مقوماً بهذه العملة، ويُدار وفق سجل موزّع وشفاف.
يتم إصدار العملة الكونية وفق خوارزمية تتبع حركة التجارة العالمية، وتعدل الكمية المصدرة منها بناءً على دورات الاقتصاد العالمي، بحيث تزداد المعروضات في فترات الركود العام لتمنح الاقتصادات دفعة ضرورية.
سيظلّ سوق الصرف قائماً، ويتم تقويم العملة الكونية مقابل سلة من العملات الكبرى «مثل: الدولار واليورو والين» بطريقة مشابهة لما تفعله اليوم حقوق السحب الخاصة في صندوق النقد الدولي. لكن كل المدفوعات الدولية بين الدول المشاركة يجب أن تمر عبر حساباتها المقوّمة بهذه العملة الجديدة.
وبخلاف كل المقترحات السابقة، يقدم هذا النظام آليتين ثوريتين تستطيعان كبح الاختلالات وتفعيل التنمية المتبادلة. أسميهما: «الضريبة» و«الرسوم».
الضريبة: وهي نسبة تُقتطع سنوياً من فائض أو عجز الحساب الجاري للدول، وتُحوّل إلى «صندوق التنمية المشترك» الذي تديره المؤسسة متعددة الأطراف.
الرسوم: وهي أشبه بتعرفة يُلزم بها رأس المال الخاص عند خروجه بشكل مكثف من دولة إلى أخرى، كما تفعل تطبيقات النقل عند أوقات الذروة.
الهدف من «الضريبة» هو تحفيز الدول صاحبة الفائض التجاري على زيادة الاستهلاك المحلي والاستثمار، وتخفيف القدرة الشرائية لدى الدول ذات العجز. وسوق الصرف سيتفاعل تلقائياً مع هذه المؤشرات لتعديل أسعار الصرف، بدلاً من أن تظل رهينة لتدفقات رأسمالية تموّل الاختلال بدلاً من معالجته.
الهدف من «الرسوم» فهو عقوبة تلقائية ضد التدفقات المالية المضاربة، تُفرض آلياً ودون الحاجة إلى تدخل بيروقراطي، ودون أن تعني العودة إلى الرقابة الصارمة على رأس المال.
ما النتيجة؟ نظام بريتون وودز جديد يُولد من دون حاجة لأي مساهمات رأسمالية من الدول، ويفتح الباب أمام صندوق عالمي للثروة السيادية، يسهم في إعادة التوازن التجاري وتمويل التحول الأخضر العادل على مستوى الكوكب.
هل هذا ممكن؟ نعم. فالصين تمتلك الكفاءة التقنية، خصوصاً في مجال نظم الدفع الرقمية المعقدة. أما باقي دول العالم، فهي متعطشة لنظام تجاري مستقر ومتوازن، بعيد عن الاستغلال والتهميش.
لا تفتقر البشرية إلى السوابق. خذوا مثال نظام Target2 في البنك المركزي الأوروبي، الذي يفرض رسوماً على الفوائض والعجوزات داخل منطقة اليورو.
ما ينقصنا هو الإرادة السياسية لتجميع هذه الخبرات في مشروع جامع واحد.
وإذا كانت «علاجات ترامب الصادمة» التي يدّعي أنها ستُعيد التوازن للعالم، تؤدي في المحصلة إلى إطلاق يد الصين والدول النامية لبناء النظام الذي حلم به كثيرون ذات يوم، ألن يكون ذلك أعظم مفارقة في التاريخ الحديث؟!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1229