السوق الأمريكية ترتعش وتترقب أزمة
هنالك الكثير من الدلائل على أن الأوليغارشية المالية تحرّض أزمة مالية. عشر سنوات مرت على الأزمة المالية السابقة، ووفقاً لمعايير القرن العشرين، فإن عِقد «الهدوء» هذا يعتبر رقماً قياسياً. وتفتخر السلطات الأمريكية بـ 117 شهراً من النمو المستمر، وفي شهر 3-2019 ستحتفل أمريكا بعِقد كامل من النمو غير المنقطع!
يتوقع البعض أنه يمكن ألّا تصل الولايات المتحدة إلى هذه الذكرى الاحتفالية، بل قد تعم الموجة الثانية والأعلى من الأزمة المالية الاقتصاد العالمي قبل هذا التوقيت. لم تصح التقديرات التي قالت أن عام 2018 سيكون عام أزمة، ربما لأن كّلاً من مكنات الطباعة في البنك المركزي الأوروبي، واليابان، استمرت في العام المنصرم بالعمل تحت يافطة «التيسير الكمي»، إذ استمرت البنوك المركزية في الولايات المتحدة وأوروبا واليابان بضخ كميات من الأموال الرخيصة، وحتى المجانية في السوق.
السوق ترتعش مع كل «تصحيح»
هذه «التكافلية النقدية» استفاد منها كبار الوسطاء الماليين المرتبطين بالبنوك المركزية، وقام هؤلاء بنشاطهم المعتاد، إذ استخدموا هذا المال الرخيص التكلفة، لتضخيم فقاعات في الأسواق المالية، وتنفجر دورياً.
إذ تتكرر في السوق المالية ما تسمى «عمليات التصحيح» وهي دورات من التراجع في أسعار الأسهم وقيم المؤشرات وتستمر لبعض الوقت، ليتم بعدها استعادة قيم المؤشرات، والعودة للنمو. وتستمر هذه العملية بشكل دائم منذ عام 1825، حيث لا تعتبر هذه التعديلات أزمات، بل تصحيحاً للاختلالات، ولكن بالمقابل، فإن السوق ترتعش مع كل تعديل، لأن كلاً منها يمكن أن يتحول إلى أزمة كاملة تُخفّض مؤشرات قيم الإنتاج، وأسعار العقارات، وكل المؤشرات الأخرى..
من الصعب تحديد عدد التعديلات الفنية في السوق المالية الأمريكي منذ نهاية أزمة عام 2007-2009، ولكن عشية العام الجديد 2019، شهدت السوق الأمريكية تعديلاً غير مسبوق، بمستويات انخفاضٍ لم تعرفها أمريكا في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. فبين 3-24 من شهر 12-2018، انهارت المؤشرات الأمريكية الرئيسة (داو جونز، ناسداك، وأس أند ب 500) بنسبة 15-16%. وهذا المستوى من الانخفاض الحاد على أساس شهري لم يحدث في الولايات المتحدة إلّا في أوائل 1930، عندما احتدمت أقوى أزمة اقتصادية في تاريخ العالم.
استعد الجميع عبر العالم لاحتمال تحول هذا التعديل إلى أزمة، ولكن المؤشر عاد للنمو..
ترافقت هذه المرحلة مع قرار مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي في 19-12 رفع سعر الفائدة الرئيسي بمقدار ربع نقطة مئوية، وقد دفع هذا إلى ردود فعل من الرئيس الأمريكي الذي لا يوافق على هذه السياسة، التي تؤدي إلى عرقلة تنفيذ خططه بالانتعاش الاقتصادي الأمريكي. وفي 23-12 نقلت وكالة بلومبروج عن ترامب، أنه لا يستبعد إمكانية استبدال حاكم المصرف المركزي جيروم باول، ومن ثم تواردت أنباء عن احتمال إقالة وزير المالية الأمريكي. حتى خرج الناطقون في البيت الأبيض وأكدوا أن الحديث عن الإقالات هو شائعات، وأن كلا المسؤولين سيستمران بعملهما، وترافق هذا مع هدوء في الأسواق وعودة النمو.
فقاعة «شركات الزومبي»
إن هذه التصريحات الإعلامية، تشير إلى درجة حرارة السوق، وهشاشتها أمام التوقعات، واستعدادها للأزمة، ويمكن أخذ مؤشرين لحرارة الأسواق، من خلال مقارنة مؤشرين:
الأول: سعر الأسهم المتداولة في البورصة والقيمة السوقية للشركات، مقابل المؤشر الثاني، وهو: الربح السنوي لهذه الشركات. فإذا ما أخذنا بطل سوق الأسهم، شركة أمازون، فإن قيمتها السوقية وصلت إلى تريليون دولار، ثم انخفضت إلى 800 مليار دولار، ولكن هذه القيمة بقيت أكبر من الربح السنوي بـ 138 ضعفاً! وفي شركة تسلا، فعوضاً عن الربح لديها خسارة، ومع هذا فإن قيمتها في السوق لا تزال 60 مليار دولار! وهذه حال الكثير من الشركات غير الكفؤ اقتصادياً، ولكن المقيمة بقيم فقاعية تعتمد فقط على التمويل بالمال الرخيص من سياسة التيسير الكمي وعبر الفيدرالي الأمريكي. أصبح البعض يُسمي هذه الشركات «الشركات الزومبي»، ومن الصعب تخيل ما سيحدث لهذه الشركات الكبرى إذا ما استمرت كلف المال بالارتفاع، وحجم الفقاعة التي ستنفجر!
الفيدرالي يسحب المال من التداول
الفيدرالي بدأ برفع أسعار الفائدة، وقد بدأ أيضاً بتفريغ محفظته من الأوراق المالية التي حازها خلال سنوات ما بعد الأزمة، والتي أقرض الآخرين مالاً مقابلها خلال سنوات التيسير الكمي.
قبل الأزمة كانت أصول الفيدرالي تقارب 800 مليار دولار، وفي 10-2014 وصلت هذه الأصول إلى 4500 مليار دولار، حيث اشترى الأصول المسمومة لإنقاذ الشركات والبنوك التي طالتها الأزمة، وهو اليوم يقوم بتنظيف محفظته من هذه الأصول، وهو ما يعني أنه يسحب الأموال من التداول، حيث يتم سحب 50 مليار دولار شهرياً حالياً.
وهذه العملية متوافقة مع رفع سعر الفائدة، وكلاهما يوديان إلى سحب الأموال من التداول، وتقليص الكتلة المتاحة من المال الرخيص الجاهز للإقراض، الأمر الذي بدأ يجعل ممارسة الأعمال في الولايات المتحدة أمراً صعباً، فالأموال المتاحة سابقاً تقل بشكل ملموس.
حاكم الفيدرالي الأمريكي ينكر وقائع أصبحت واضحة، ويقول بأن الظروف ملائمة لرفع سعر الفائدة، والمخاطر تنخفض، والطلب يزداد... ويتم التسويق، لأن رفع سعر الفائدة هو أمر قائم على دراسة علمية. وهذا ما ينبغي أن يقوله حاكم الفيدرالي الأمريكي في هذه الأوقات، ولكن ليس هذا ما يُعرب عنه الجميع. فمن البارون جاكوب روتشيلد رئيس شركة RIT Capital Partners، الذي كرر تحذيره في 10-2018 من الأزمة المتوقعة مع نهاية سياسة الفائدة المنخفضة والتيسير الكمي. إلى توقعات جميع المتخصصين الذين استطلعتهم مجلة TIME الأمريكية، والذين أجاب نصفهم بأنهم يتوقعون الأزمة في 2019، بينما النصف الآخر أجل توقعاته إلى مطلع 2020.
الآلية القديمة الجديدة والأزمة كفرصة
من المفارقات التي تنبغي ملاحظتها: أن الأزمة هي بالضبط ما يسعى إليه مالكو مكنة الطباعة، المساهمين الخاصين في الفيدرالي الأمريكي، ومن بينهم بنك جولدمان ساكس، حيث عمل وزير المالية الأمريكية سابقاً. الآلية المتبعة تاريخياً هي المطبقة حالياً، فهؤلاء يضخون أموالهم في الاقتصاد لينمو ويخلق الثروات الجديدة، وبعدها بتقليص كميات المال المتدفقة يتم التحكم بتوقيت الأزمة، وتبدأ الإفلاسات، وتصبح الثروات والأصول أرخص من أي وقت سابق، وفي النهاية فإن هؤلاء يمركزون الثروات بكلف أقل. لتبدأ بعدها الدورة الاقتصادية الجديدة، بمستوى أعلى من التمركز مع عودة المال للتدفق.
بدأت البنوك المركزية كافة برفع سعر الفائدة لِحاقاً بالفيدرالي الأمريكي، وسيكون عام 2019 عام التراجع الكبير في المال الرخيص، الذي كان يحيي استمرارية الديون. تلك التي وصل مستواها إلى 300% من الناتج للولايات المتحدة، ومستوى قريب في المراكز الأخرى، وحتى في الصين. وستبدأ حالات التخلف عن السداد في جميع قطاعات الاقتصاد العالمي.
في ظل ظروف كهذه، يمكن أن يكون ترامب «كبش فداء»، ليتم تحميله وِزر الأزمة الاقتصادية، التي بحدوثها فلن تكون أقل وِزراً من أزمة 1929. وبالطبع المسألة ليست بيد ترامب، فالرؤساء الأمريكيون فقدوا سلطتهم الفعلية منذ أن وقع ويلسون في 23-12-1913 قانون سلطة الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي.
*عن مقال للبروفيسور فالنتين كاتاسانوف: «التعديلات الهيكلية في السوق المالية ستتطور لأزمة مالية»