العقوبات الاقتصادية... سلاح حتى الرمق الأخير
تستطيع الولايات المتحدة أن تستخدم أداة العقوبات الاقتصادية، كأداة فعالة في الصراع الدولي حالياً... ولكن هذه الأداة مؤقتة لأن دعائم قوتها مؤقتة كذلك الأمر. يتساءل العديدون... لماذا تستخدم الولايات المتحدة الأمريكية العقوبات؟ وكيف تفرض نفسها؟ وما هي حدود هذه القدرة، وهذه الأداة الأمريكية؟
تعتمد سلطة العقوبات الاقتصادية، على الدور المالي المركزي للولايات المتحدة الأمريكية. وهذا الدور لا يعتمد على الدولار كنقد عالمي فقط، وإن كان الدولار هو وتده الأساس، إلّا أنه يعتمد على دعائم مالية أخرى أيضاً، أهمها: القدرة على التمويل وخلق الديون أولاً، والمنظومة المؤسساتية والخدمية المالية، المتمثلة بقطاع المال وخدمات الأعمال والمعلومات وكل ما تتضمنه من كثافة تكنولوجية، وبيانات كبرى، وهذا ثانياً.
وتترابط هذه الجوانب مع بعضها البعض، فالمستخدمون الكبار للدولار في التداول العالمي، يتمولون من منظومة الديون الأمريكية، ويعتمدون على خدمات البنوك الكبرى ويرتبطون بها، وتندمج أموالهم بأعمالها. فلا تستطيع شركة توتال، العملاق النفطي الفرنسي أن تقاوم العقوبات على إيران وتستمر بعملها، طالما أن أموالها المودعة حتى في البنوك الفرنسية الكبرى، هي جزء من منظومة سويفت (جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك) مثلاً، التي تعتبر بمثابة وسيطاً بين أكثر من 10 آلاف منظمة مالية عبر العالم، أي: مجمل البنوك الكبرى عالمياً. والتي تضم بالطبع البنوك المركزية الغربية، وفي مقدمتها: الفيدرالي، والتي تجري فيها يومياً 4 مليارات صفقة، بتريليونات الدولارات يومياً. عبر منظومة سويفت مثلاً، تستطيع العقوبات الأمريكية المطبقة عبر البنوك الأمريكية، أن تحاصر توتال أو غيرها. وتراقب أعمالها، وتوقف أي نشاط لها طالما أنه يتم بالدولار أو اليورو، ويمر عبر أيّ من المؤسسات المالية الـ 10 آلاف المنضمة لسويفت!
فالشركات الكبرى حتى العابرة للقارات منها، لا تستطيع أن تفصل نفسها بسهولة، عن حكم المال المتمركز في الولايات المتحدة، والمعتمد على قدرة حكومتها وبنكها الفيدرالي على خلق المال، والتحكم بحركته.
خلق الفوضى وضبط المال
تهدف العقوبات الاقتصادية الأمريكية، إلى خلق الفوضى في الدول المستهدفة. لأنها تستطيع أن تعرقل جزءاً هاماً من النشاط الاقتصادي، وأن تدفع رؤوس الأموال للخروج من هذه الدول. فعندما تستهدف العقوبات روسيا أو إيران أو تركيا، فإن هذا يعني إمكانية الحجز على الأموال التابعة لهذه الدول أو شركاتها، والمودعة في أي من المؤسسات المالية الغربية أو المرتبطة بها. ويعني: إيقاف أية عملية دفع أو تحويل أو تمويل لها بالعملات العالمية، أي: الدولار أو اليورو بالدرجة الأولى، وامتداد العقوبات لتطال أياً من المتعاملين معها، عبر غرامات وإتاوات تفرض على الشركات المتعاملة. ومجمل هذا يدفع الأموال المودعة في فروع البنوك والشركات العالمية، وفي البورصات في الدول المستهدفة للخروج منها. وتؤدي بالتالي حركة رؤوس الأموال هذه إلى تراجع في قيم العملات المحلية، وإلى تعطل اقتصادي وتجاري ومالي، يختلف حسب مدى اتساع دائرة العقوبات.
أي: أن الإجراءات العقابية الاقتصادية الأمريكية، تهدف لمحاصرة النشاط الاقتصادي لهذه الدول، وخلق ظروف فوضى اقتصادية، تؤخر تقدمها. ومن ناحية أخرى تهدف العقوبات إلى إعادة رؤوس الأموال إلى المركز المالي الغربي، ومنع خروجها من كنفه. وفي هذه العملية محاولة لفرض قوة المنظومة المالية والبنكية المركزية الغربية، عبر عودة الأموال للتدفق إلى منابعها، بما قد يسمح بتأخير انفجار أزمات الديون فيها، ومركزة الفوائض مجدداً لديها.
الحاجة الملحة للمنظومة البديلة
لذلك فإن الردود على العقوبات الأمريكية، لا يمكن أن تكون إلا بالتسريع بخلق المنظومة المالية البديلة. أولاً: مصادر تمويل دولية، خارج إطار الديون المستمدة من البنوك المركزية الغربية. وثانياً: منظومة خدمات مالية بديلة عن المنظومة الغربية، والتي تعبّر سويفت عن مستوى مركزيتها.
ولكن الأهم يبقى: العملة أو العملات البديلة عن الدولار، التي تستطيع الدول الأخرى وتحديداً المستهدفة مثل: الصين وروسيا وغيرها، أن تصدرها وأن تؤمن قبولها لدى الأطراف الدولية الأخرى. وهو ما تتيحه جزئياً عملية التبادل بالعملات المحلية بين هذه الدول، التي تحدث عنها ريابكوف نائب وزير الخارجية الروسي مؤخراً (بأنها أصبحت حاجة... ولم تعد رغبة لطرف دون آخر).
إن أسس القوة الموضوعية التي قامت عليها منظومة الهيمنة المالية الغربية، جميعها مهتزة. فالولايات المتحدة لم تعد القوة العسكرية الأوحد والأكبر، ولم تعد القوة التجارية الأولى عالمياً، وتلقى منافسة استثنائية ومتسارعة في مجال الهيمنة التكنولوجية. وأيضاً: لم تعد قادرة على الاستمرار بخلق التمويل عبر الديون، وقد بدأت بتقليص عملية إصدار المال الرخيص وبدأت رفع الفائدة. ورغم أن منظومة الخدمات المالية العالمية وقطاع الخدمات المالية عموماً لا يزال غربي الطابع. إلّا أن روسيا والصين أعلنتا سعيهما إلى تشكيل منظومة سويفت بديلة، ومؤخراً دعت ألمانيا عبر وزير ماليتها إلى تشكيل منظمة سويفت أوروبية منفصلة عن الأمريكية.
العقوبات ستستمر وتتسع
العقوبات الاقتصادية ستستمر وتتسع، لأنها هامش الحركة الأساسي المتوفر لمنظومة المال الأمريكية. التي ورغم الخلافات العميقة في الحكم الأمريكي، إلا أن حمايتها من التراجع السريع والأزمات الكبرى، أمر متفق عليه، حيث تمر الإجراءات العقابية دون خلافات كبرى بين النخب الأمريكية. العقوبات تتيح للولايات المتحدة استخدام آخر أدوات هيمنتها، وتتيح لها استعادة الأموال إلى المركز المالي الغربي، وتعطيه بالتالي جرعة قوة. وهي في الوقت ذاته تجعل عملية خلق البدائل النقدية والمالية لدى قوى العالم الصاعدة، تتم في ظروف الصراع والاضطراب الاقتصادي وعدم الاستقرار. ولكن في المقابل فإن استخدام العقوبات، هو تسريع الحوافز لخلق البدائل، وهو يؤدي إلى مزيد من الانقسامات في المركز الغربي ذاته، كما يحدث بين ألمانيا والولايات المتحدة. المركز المالي الغربي، يعلم أن قواعد هيمنته الأحادية، انتهت... ويعلم أن البدائل ستخلق موضوعياً، نتيجة الإمكانية والحاجة لها. والعقوبات هي أداة حرب وتفاوض في الآن ذاته، لمنع التراجع السريع للمركز الغربي، ومنع التقدم السريع للآخرين. ولكن التراجع هناك والتقدم هنا، قانون موضوعي تحكمه الأوزان الاقتصادية والتراكم المعرفي الذي لم يعد حكراً على الغرب.