تفاعل «جيوسياسي» غير عكوس!

تفاعل «جيوسياسي» غير عكوس!

الأزمة الاقتصادية العميقة تغير معالم العلاقات السياسية- الاقتصادية الدولية اليوم. وبسرعة غير مسبوقة، تطيح الأزمة كل ما بنته سابقاً موجة ازدهار الرأسمالية بعد الحرب، وفي عقد نموها الذهبي في الخمسينيات. فبين المعالم السياسية-الاقتصادية لذاك الصعود الآفل، وبين اليوم، الكثير من الدلائل..

شكلت عملية أجاكس، الاستخبارية الأمريكية- البريطانية المشتركة، والتي أطاحت بحكومة مصدق في إيران عام 1953، وسمحت تالياً بوجود إيران ضمن حلف بغداد الذي تشكل سنة 1956، مجرد خطوة أولى ضمن عملية تحول جيوسياسي عالمي كبير؛ فالخلاف، ومن ثم الشقاق الصيني السوفياتي، كان الخطوة الأكبر. بدأ الخلاف يظهر واضحاً بعد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي عام 1956، وتحول يوم 30/6/1960 إلى إعلانٍ عن «قطيعة عقائدية»، لم يلبث الأمريكيون أن اشتغلوا عليها عبر «سياسة الباب المفتوح»، وصولاً إلى بداية تطبيع العلاقات الأمريكية- الصينية مع زيارة ريتشارد نيكسون للصين يوم 21/2/1972، وهو الأمر الذي كان ذا شأن كبير ضمن عدة قضايا أخرى أدت في المحصلة إلى انهيار الاتحاد السوفياتي.

بالتوازي مع هذه التطورات، تحولت اتفاقية السوق الأوروبية المشتركة الموقعة عام 1957 تحت اسم European Economic Community، إلى الاتحاد الأوروبي عام 1992. في ذلك العام، كان ممكناً القول أنّ الخريطة الجيوسياسية لما بعد الحرب العالمية الثانية، قد انقلبت انقلاباً جذرياً؛ فليس ثمة بعد، أي وجود لأحلام أوراسية، ولا توجد أية كتل أو خطوط حرير شرقية، والقارة الإفريقية البائسة التي كانت مستعمرة وتنفست بعد الحرب العالمية الثانية، آمال التحرر الوطني، خرج الاستعمار القديم من بابها ليدخل الجديد من مسامها كلها. أما أميركا اللاتينية، عدا القلعة الكوبية، فكانت لا تزال حديقة خلفية لواشنطن، إذ لم تكن قد بدأت بعد موجتها البوليفارية الجديدة.

عام 2009 عُقدت أول قمة لمجموعة بريكس، وتسارع تطور وتحسن العلاقات الصينية- الروسية إلى درجة من التوافق والانسجام، ربما لا نجد لها أية سابقة في تاريخ البلدين. في الشهر السابع من 2016 جرى استفتاء بريكسيت الشهير، وبات استمرار الاتحاد الأوروبي على طاولة البحث التاريخي العاجل. في العام نفسه، وبعد محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا، ثاني أكبر قوة عسكرية في حلف الناتو بعد الولايات المتحدة، توترت العلاقات بين البلدين بشكل كبير، حاملة تهديدات ضمنية ونذير شؤم للحلف نفسه، وخاصة أن هذا التدهور ترافق مع تحسن العلاقات الروسية- التركية بشكل عاصف. دول الخليج العربي، والتي لطالما كانت احتياطياً غربياً في الصراع مع الاتحاد السوفياتي والصين سابقاً، ومع روسيا والصين حالياً، بدأت بالتذمر والمناورة، بل وبفتح قنوات التواصل مع روسيا لبحث مسائل إنتاج النفط. يوم الخامس من أيلول 2016 جرى توقيع مذكرة تعاون روسي- سعودي لتحقيق الاستقرار في سوق النفط، وهو الاتفاق الذي يحمل من المضامين السياسية، أكثر بكثير من مضامينه الاقتصادية المباشرة؛ فهو الخطوة الأولى في تحطيم السيطرة الأمريكية على أوبك.

بالمحصلة، فإنّ الخريطة الجيوسياسية المتشكلة عام 1992، تتغير اليوم بشكل درامي نحو خريطة جديدة، لم يسبق لها أن تشكلت في أي وقت مضى؛ خريطة يوحي اتساعها الهائل بأن التفاعل الموصل إليها هو من النوع غير العكوس: irreversible!

معلومات إضافية

العدد رقم:
793