ألمانيا- مارشال: (قلب الغرب)

ألمانيا- مارشال: (قلب الغرب)

الأمريكيون أرادوا أن تنهض ألمانيا الغربية بعد الحرب وسريعاً.. وهذه الإرادة التي لها جملة من المسببات أهمها السياسية، تحولت إلى جملة إجراءات مدروسة لتحقق ألمانيا نقلاتها الضرورية..

لم تكن خطة مارشال تدفقات الأموال الكبيرة إلى ألمانيا تحديداً، وأوروبا عموماً فقط، بل كانت إعادة هندسة للخارطة الاقتصادية الأوروبية، وفق معطى جديد وهو: الدولار العالمي والمؤسسات الاقتصادية الجديدة، وكلاهما التعبير الاقتصادي عن الواقع السياسي القائل بأن: (الولايات المتحدة الأمريكية المنتصر الأكبر بعد الحرب)! وأن عليها أن تسحب غرب أوروبا، من التأثير السوفييتي في الشرق، وأن تحولها إلى سوق موحدة ينشط فيها الدولار استثماراً وتجارة.

 

عشتار محمود

خطة مارشال لإعادة إعمار ألمانيا بدأت عام 1949، ولكن هذا لا يعني أن الأعوام الأربعة السابقة بعد الحرب لم تكن (أمريكية الهوى).. !

(التمهيد الأمريكي لمارشال)

خلال مرحلة (حكومة ايرهارد) الليبرالية التي عينتها قوات الحلفاء الذين تقاسموا ألمانيا الغربية: الأمريكيون والبريطانيون، والفرنسيون، في تلك المرحلة كان كل شيء يتدهور في ألمانيا الغربية: البطالة تزداد، العملة تنهار، والمناطق تعيش على المساعدات التي أثقلت على كل من بريطانيا وفرنسا، وجعلتهما ملحقتين بالخطة الأمريكية لا مساهمتين فيها. الخطة الأمريكية التي كانت مدعومة بتدهور العملات الأوروبية، وبقوة الدولار المنتصر، وأول ما فعله الأمريكيون هو إعادة هيكلة العملة الألمانية، وإصدار المارك الألماني عام 1948، كما ساهموا في عمليات تحرير الأسعار السريعة التي أدارتها حكومة ايرهارد عقب الحرب، والتي حررت الأسعار عموماً وأبقت على الأسعار ثابتة نسبياً في القطاعات الصناعية الأساسية وقطاعات الطاقة المساهمة في تخفيض تكاليف الإنتاج، الذي تطلب أيضاً تثبيت الأجور، وكانت النتيجة إضرابات عمالية واسعة وصلت إلى 9 ملايين عامل، قابلها الأمريكيون بالأسلحة. استطاعت المفاوضات مع نقابات العمال أن ترفع الأجور بنسبة 15%، بينما كانت الأسعار قد ارتفعت بنسبة 25%، ولكن العمال في ألمانيا اضطروا إلى عقد هذه الصفقة، في ظل البطالة المتزايدة من جهة، وبتحفيز من عودة الأسعار للاستقرار، بعد أن بدأت المساعدات الأمريكية عبر خطة مارشال بتزويد الاقتصاد الألماني بالدولار.

مجمل الأموال الأمريكية المتدفقة إلى ألمانيا خلال المرحلة من عام 1945-1952 بلغت 3,8 مليار دولار، وقد تراجعت المساعدات الأمريكية إلى ألمانيا الغربية سريعاً في عام 1951 بمقدار 73% عن عام 1950.

الولايات المتحدة أعلنت هدفين رئيسيين لخطتها: إحياء الصناعة الألمانية، وإعادة تحويلها إلى مصدر للبضائع الرأسمالية، أي للبضائع في قطاع إنتاج وسائل الإنتاج، هذا أولاً، أما ثانياً فهو: إعادة إدماج ألمانيا في التجارة الدولية، وفي التجارة الأوروبية تحديداً، وتفعيل قطاعها التصديري.

فكيف دعمت الصناعة، وكيف ضمنت دمجاً سريعاً للتجارة الألمانية؟!

أين استثمر الأمريكيون وكيف؟!

أردات الولايات المتحدة أن تعود الآلة الصناعية الألمانية للإقلاع سريعاً، مستفيدة في ذلك من معطى أساسي، وهو أن رأس المال الصناعي الألماني المتطور والمتوسع والمتمركز خلال الحرب، كان لا يزال نقطة مضيئة في الخراب الألماني، وكانت مستوياته في عام 1948 متقاربة من مستوياته في عام 1938، وكأن الحرب (لم تمر من هنا)..

ولذلك فإن الولايات المتحدة ومارشال، وعلى الرغم من (الحديث الديمقراطي) عن تفكيك الاحتكارات الألمانية و(عن اللامركزة) فإنها حرصت على ألا يتغير هذا جدياً، وبقي جزء هام من البنية الاحتكارية للصناعة الألمانية وتحالفات التروستات قائماً، (تشير بعض الدراسات إلى أن القطاع الصناعي الوحيد الذي تمت فيه عملية تفكيك مؤقتة كان قطاع الصناعة الكيميائية).

بلغت حصة شركات القطاع الخاص الصناعي الألماني 43% من أموال إعادة الإعمار. وينبغي الإشارة هنا، إلى أن هذه الأموال الأمريكية لم تكن كبيرة بالقياس إلى رأس المال الصناعي الألماني، حيث أن نسبة المساهمة الإجمالية للأمريكيين في رأس المال الثابت للصناعة الألمانية كانت قليلة (وصلت ذروتها في عام 1949 بنسبة 7,8%، وفي عام 1950 انخفضت إلى 4,1%، وفي عام 1951 إلى 2,1%).

إلا أن الولايات المتحدة استثمرت في المكان الذي تضمن فيه حصة من أرباح الصناعة الألمانية كلها، حيث كانت مساهمتها الأهم في القطاعات الاستراتيجية، وتحديداً قطاعات الكهرباء، والفحم، والتعدين، والطرق والأسطول البحري، والاتصالات، والبريد، ولذلك فإن الولايات المتحدة ساهمت في القرارات الحكومية الألمانية لإدارة هذه القطاعات وتنشطيها، فلم يتم تحرير أسعارها، ولم يتم خصخصتها بل دخلت الدولة مباشرة في إدارتها والإنفاق الاستثماري عليها، ولكن مع حصة أمريكية في رأس مالها الثابت وصلت إلى 35% عام 1949.

حصة (صُنّاع المعجزة)

أرادت الولايات المتحدة عبر إدارتها للاقتصاد الألماني بعد الحرب وعبر مارشال، أن تطلق قدرات الصناعة الألمانية مجدداً، فأبقت تكاليف إنتاجها منخفضة، وهذا لم يقتصر على المساهمة في رأس المال، بل وفي حصة العمال الألمان صانعي النمو من (المعجزة الألمانية). 

حيث تشير الدراسات إلى أنه رغم أن الأجور في ألمانيا ازدادت اسمياً بنسبة 80% خلال الفترة بين عام 1949- 1955، إلا أنها فعلياً لم تكن تزداد لدى غالبية العمال في القطاع الصناعي، حيث أن كلفة العمل في الصناعة الألمانية لم ترتفع خلال الفترة من 1950-1960، رغم أن عدد العمال قد ازداد بمقدار الثلث! والناتج الصناعي ازداد بنسبة 250% تقريباً خلال هذه الفترة، أي أن مجمل الزيادة في الناتج الصناعي، كانت تعود للمساهمين في الأرباح: رؤوس الأموال الألمانية والأمريكية. والعمال الذين ضاعفوا أرباح الصناعيين مرتين ونصف خلال عشر سنوات، لم يستطيعوا أن يزيدوا حصتهم من هذه الأرباح المتزايدة، لتبق الأجور ثابتة في الصناعة التصديرية.

ويلاحظ أن جهاز الدولة في ألمانيا، قد تمت هيكلته بالشكل الذي يكبح مطالبة العمال الألمان بزيادة حصتهم من الناتج، حيث تم توسيع التشغيل في القطاع الحكومي الألماني (2,2 مليون عامل في 1950)، وزيادة الخدمات الاجتماعية.أي تعويضات الأجور. ليتولى قطاع الدولة الذي يحصل على أمواله من عمل العمال الألمان، مهمة التعويض وتنفيس الغضب.

أقل نسبة دين في أوروبا

الصناعة الألمانية كانت عالية الربحية بشكل قياسي بعد الحرب، ولذلك كان الأمريكيون الذين شاركوا رأس المال الصناعي الألماني أرباحه، مهتمين جداً بفتح السوق الأوروبية أمام الألمان.

مؤسساتياً كانت مساعدة خطة مارشال، هي الأهم بالنسبة للتعافي الألماني، وتفوق المساعدة المالية المباشرة، وهذا ما حصل فالصناعة التصديرية الألمانية ازدادت حصتها من السوق العالمية من 7,3% إلى 19% خلال الخمسينيات.

 فالأمريكيون بإنشائهم للمارك الألماني في عام 1948، وبمؤتمر لندن عام 1953، كانوا قد أنجزوا تحرير ألمانيا من نسبة كبيرة جداً من ديونها المتراكمة على للأوروبيين، ودخلت ألمانيا مرحلة إعادة الإعمار، بميزة نوعية لم تمتلكها أي دولة أوروبية أخرى، فقد كان معدل الدين من الناتج لا يتجاوز 20% رغم القروض الكبيرة، وقد بقي منخفضاً حتى عام 1970 بنسبة 25%، بينما كان في بريطانيا على سبيل المثال 200% في الخمسينيات.

كما أن الولايات المتحدة التي امتلكت هيمنة الدولار كعملة احتياطي دولي بعد اتفاق بريتون وودز، وضعت الأسس للسوق الأوروبية المفتوحة، وبتأسيسها لنظام المدفوعات الأوروبية الموحد EPU في عام 1950 حيث تم إلزام الجميع بتحرير التجارة، وجدولة قروض ألمانيا، وفرض الدولار كعملة تبادل واحتياطي في العلاقات الأوروبية..

 

خطة مارشال لم تبنِ ألمانيا أو أوروبا، بل من بناها بعد الحرب وأعاد التعافي الاقتصادي إليها، هم عمال أوروبا وشعوبها. إلا أن التدخل الأمريكي، عبر الاستثمار والبنية المؤسساتية، كان يهدف إلى عدم عرقلة نجاح العملية، كما فعل في دول أخرى. بل أراد الأمريكيون تسريعها، وهيكلتها ليتحول إعمار ألمانيا الغربية عبر تشابك رؤوس الأموال الأمريكية والألمانية فيها إلى (قلب أوروبا الغربية)، وينقلها بشكل محسوم إلى (العالم الجديد)، تحت مظلة هيمنة المؤسسات الأمريكية والدولار التي تستمر حتى اليوم في إعاقة استقلال القرار الأوروبي اقتصادياً وسياسياً، حتى لو كان الثمن تفكك (أوروبا الموحد) والفوضى فيها.