ثروة مهدورة في ظل الحاجة الماسة لها في التنمية المستقلة المستمرة والمتوازنة
سوف نبدأ مقالتنا هذه بهذه المقولة «من يهتم ويبني البنيان فقد بنى شيئاً آنياً يمكن لأية حادثة طبيعية أو حرب أن تهدمه، ولكن من يبني الإنسان فإنه يبني الحاضر والمستقبل في حال استثمره بشكل صحيح لا يمكن لأية قوة آن تعرقل تقدمه». فالإنسان هو غاية التنمية وأي نمو لا يوجه لتنميته بشتى الأنواع هو نمو فقاعي زائل، وأي تنمية لا تقوم على الإنسان المتعلم المبدع المدرب والمؤهل.. زائلة.
فللموارد البشرية أهمية كبرى ومركزية في عملية التنمية بشتى أنواعها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية، فثروة أي مجتمع لا تقتصر على موارده الطبيعية أو الباطنية، وإنما تشتمل الموارد البشرية ذات الأهمية الكبرى في عمليات التنمية والتطور، وهذا ما جعل الكثير من الباحثين والخبراء الاقتصاديين والاجتماعيين يطلقون اسم الثروة البشرية على الموارد البشرية، لما لهذه الموارد من أثر فعال في حال تنشئتها وتهيئتها وإعدادها وتنميتها بالشكل المناسب، واستثمارها ضمن الظروف الملائمة والمناسبة للسير في التنمية وقيادتها نحو الأمام .
وخير مثال على ذلك التجارب التي نجحت بها بلدان فقيرة بالثروات الطبيعية التي أصبحت تحتل المراتب الأولى في الترتيب العالمي للبلدان الأكثر تقدماً اقتصاديا واجتماعياً، حيث أنها وصلت إلى ما وصلت إليه عن طريق مواردها البشرية ذات الكفاءة والتدريب العالي التي استطاعت أن تحول الصخور والرمال والتراب إلى منابع للأموال تتفوق على ما تدره آبار النفط وغيرها من الموارد الطبيعية، وبالمقابل هناك الكثير من المجتمعات الغنية بمواردها الطبيعية لكنها عاجزة عن تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وذلك بسبب اعتمادها على هذه الثروات الطبيعية والمالية دون العمل على بناء المورد البشري المدرب والمؤهل القادر على استثمار هذه الثروات الطبيعية بالشكل الذي يحقق أعلى درجات التقدم والرفاهية، ويحول دون الفقر والعوز في حال نضوب هذه الثروات.
فالتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية لا تتحقق بوجود الموارد المالية والطبيعية فقط، بل يجب وجود الموارد البشرية المدربة والمهيأة والفاعلة ذات الإمكانات والمعارف والخبرات اللازمة لاستغلال واستثمار هذه العناصر ..
ومن هنا نسأل إذا كانت الموارد البشرية الكفوءة والمدربة هي الأساس، فما هو تقييمنا لاستثمار الموارد البشرية السورية؟ وأين يكمن الهدر إن وجد وهنا نجاوب باختصار شديد: إن الهدر للموارد البشرية ناتج عن التنشئة والتنمية والاستثمار حيث :
1 - ثمة خلل في تنشئة الموارد البشرية السورية، فمؤسسات التنشئة المتمثلة أولاً بالأسرة التي تعد نواة تكوين المجتمع، والمؤسسة الأهم المسؤولة عن تعليم الأطفال القيم الأخلاقية والمثل العليا بما يتماشى مع الإطار الوطني، ويمكن أن تصحح انحراف بعض المؤسسات التعليمية بمراحله المختلفة، منهكة.
وهذا يطال التعليم الأساسي، والتعليم العام والفني والجامعي، وهنا يجب تخطيط هذا التعليم بالتنسيق مع متطلبات السوق والتغيرات التكنولوجية من حيث المنهاج والعدد والأدوات المساعدة للعملية التعليمية.
ونسأل هل هذه المؤسسات مؤهلة للعب دورها الهام في تنشئة الموارد البشرية من حيث المستوى الاقتصادي والمعرفي والخبرة وخاصة في مواجهة الغزو الثقافي لمؤسسات قوى العولمة، وهل تطورت المؤسسات التعليمية من نواحي المنهاج والأدوات والأساليب والعدد والتجهيزات لتكون بديلاً قوياً عن دور الأسرة من جهة، ولتعد الموارد البشرية بما يتناسب مع متطلبات سوق العمل؟ هل أصبح أسلوب التعليم يعتمد على الابتكار والإبداع والتفكير الخلاق بدلاً من التلقين؟ وهل الكفاءات والخبرات التي تمتلكها الكوادر التعليمية كفيله لأداء دورها الهام بمهارة عالية وإنتاجية كبيرة .
2 - هناك خلل في تنمية الموارد البشرية، فالتدريب والتأهيل هما العلاج الأساسي للخلل الناجم عن الفجوات الناشئة بين متطلبات سوق العمل ومخرجات المؤسسات التعليمية إضافة إلى أنه الرابط الهام والأساسي بين المتغيرات والتطورات التكنولوجية والمعرفية والتقنية وسوق العمل المحلي الراغب بالاستفادة من هذه المتغيرات. والسؤال هنا هل تُؤدى هذه العملية بشكل صحيح مما ينعكس على زيادة الإنتاج والإنتاجية وتطوير الأداء أم أنها تمارس كأسلوب لإضاعة الوقت والكسب المادي؟ هل ترسل البعثات على أساس الحاجة والمهارة المطلوبة أم لاعتبارات الولاء والمراضاة؟ هل يوجد شركة تعتمد على مبدأ الجدوى الاقتصادية لعملية التدريب والتأهيل، من حيث انعكاسه على الإنتاج والإنتاجية من خلال التزويد بالمعارف والمهارات والخبرات ومن حيث تناسب المناهج التي تُعطى مع احتياجات المؤسسة؟
3 - هل الخدمات الصحية والطبية تلعب الدور الذي تزيد فيه إنتاجية المجتمع عن طريق بناء الإنسان القوي صحياً ونفسياً ذي الطاقات المثلى والنشاط الدائم والحيوية التامة؟ وهل يحس المواطن بالأمان الصحي، بحيث يكون مؤمناً صحياً ضد جميع الأمراض وبما لا يشكل عبأ عليه وعلى أسرته؟ وهل مازالت الخدمات الصحية في القطاع العام بالكفاءة والجودة التي كانت عليها؟.
إن استثمار مواردنا البشرية يعاني من ثغرات غير قليلة من جميع النواحي..
-فالمبدأ الأساسي لكفاءة استخدام الموارد البشرية يرتبط بالمهارة والتحفيز، فيجب أن يكون التعيين على أساس المهارات والاختصاصات، لا على أي اعتبار آخر، وأن يرتبط هذا التعيين بالتحفيز عن طريق آجر مناسب سواء عيني أو نقدي.. إن لم يقترن التعيين بالكفاءة والتحفيز فالأداء سيكون غير منتج، وإن وجود أحدهما غير كافِ.
-هناك هدر كبير للموارد البشرية السورية عن طريق التشغيل الناقص بسبب البطالة بأنواعها المختلفة والبطالة المقنعة التي تعاني منها أغلب المؤسسات العامة .
-لم يستطع التعليم بكافة مراحله أن يواكب التطورات الاجتماعية والاقتصادية على الرغم من التطور الأفقي والكمي، ولم يترافق بالتطور النوعي من حيث أسلوب التعليم وربط المنهاج بسوق العمل، ومن دوره التربوي في صقل وتجسيد القيم والأخلاقيات والثقافات التي يحتاجها المجتمع من حيث احترام القانون واحترام الوقت والحفاظ على القيم الكثيرة التي كانت سائدة في المجتمع واستطاعت أن تكون الأساس للانطلاقة التنموية، وبالتالي المساعدة على محاربة الفساد المنتشر بكثرة وبأسلوب وقح علني المتجسد بالسرقة والنهب والهدر والتهرب الضريبي وشراء المناصب والتعدي على الملكية العامة ومحاولة قتل وتدمير القطاع العام
- هناك هدر كبير للكفاءات السورية عن طريق الهجرة الخارجية متوسطة المدى وطويلة المدى. هذه الكفاءات التي تبدع وتساهم بشكل كبير في تنمية وتطور البلدان التي تعمل بها، في حين أننا نعاني من النقص في الكثير من الاختصاصات التي تملكها الكفاءات المهاجرة .
-مازال التعيين يقوم على اعتبارات مختلفة بعيدة عن الكفاءة والمهارة، ومازال هناك الكثير من المسؤولين الذين يحاربون الكفاءات التي تحترم القانون والنظام بحيث أن هذه الكفاءات تشكل العدو الأكبر لهؤلاء .
إن الاختلالات انعكست سلباً على سوية معيشة المواطنين وعلى هيكل الموازنة النقدية وعلى الأمن الغذائي وعلى المؤشرات الكلية، وهنا نقول: إن الإصلاح ليس بالمستحيل علماً أن التهديم يحتاج لوقت قصير بينما البناء بحاجة إلى فترات طويلة. ولكن الرهان على الكوادر السورية المتواجدة والمهاجرة رهان صائب في حال توافر النية الصادقة والإرادة القوية والإدارة المؤهلة الكفوءة، وفي حال الاعتماد على الكوادر الوطنية على مبدأ «زيوان البلد ولا حنطة جلب» عكس المبدأ السائد «زيوان جلب ولا حنطة البلد». فلا تزال سورية تمتلك الكثير من الكوادر والخبرات التي تستطيع تصحيح الاختلالات وتعيد القطار إلى السكة الصحيحة، فبلد مثل سورية يمتلك حكمة الشيوخ وعنفوان الرجال ومحافظة الشباب يُراهن عليه وخاصة في ظل تطور الأداء المؤسساتي في الكثير من المؤسسات التي أقنعت وعملت بحكمة وتفهم في السنوات الماضية، فمكافحة علنية وقوية وشعبية للفساد والفاسدين وللتخريب والمخربين، وللتابعين، وللحاقدين ولغير المنتمين كفيلة في إعادة التوازن المفقود في ظل تشاؤم المنظرين وتفاؤل الواقعيين.
*دكتوراه في الموارد البشرية، عضو جمعية العلوم الاقتصادية السورية، محاضر في جامعة تشرين
• المادة كاملة منشورة على موقع قاسيون