من تجربة لبنان.. ما هي نهاية طريق أولوية السياسة النقدية والمالية؟!
ليلى نصر ليلى نصر

من تجربة لبنان.. ما هي نهاية طريق أولوية السياسة النقدية والمالية؟!

تعتبر السياسات النقدية والمالية، أداة في خدمة المشروع الاقتصادي العميق لأصحاب الوزن الاقتصادي في رسم السياسات، وكلما زاد الاعتماد على هذه الأدوات، وتحويلها إلى أهداف كلما عكس ذلك تجاهل متعمد للمؤشرات الاقتصادية الحقيقية، هذا ما حصل في لبنان، وما يحصل في سورية اليوم.. 

يشير الاقتصادي اللبناني غسان ديبة في دراسة منشورة في مجلة الإعمار والاقتصاد بتاريخ حزيران 2016، إلى أن السياسات النقدية والمالية قامت على هندسة الاقتصاد اللبناني بعد الحرب وفي نهاياتها، مع التبعية الاقتصادية وعدم الاستقلال. 

ليلى نصر

حولت القوى الاقتصادية الكامنة وراء هذه السياسات النقدية والمالية، الاقتصاد اللبناني إلى النشاط المصرفي والخدمي، حيث أن نسبة القطاع الزراعي والصناعي من الاقتصاد كانت أكبر في عشية انتهاء الحرب اللبنانية وبدء إعادة الإعمار، مما هي عليه اليوم.

أدوات نقدية 

لبنانية أدت (للريعية)

ليعدد الباحث جملة من الإجراءات النقدية والمالية التي أدت إلى تراجع عمليات الإنتاج في القطاعات الحقيقية.. أهمها تثبيت سعر صرف العملة عند مستوى مرتفع، والسعي إلى تأمين تدفق الأموال الخارجية، وتمويل الخزينة عبر السندات، ورفع أسعار الفائدة لهذا الغرض، وكانت النتيجة أن مولت رؤوس الأموال سندات الخزينة الحكومية، لأغراض النشاط الخدمي الضيق لجهاز الدولة المتراجع في لبنان عن أداء مهامه الاقتصادية والاجتماعية،  وحصل حاملو السندات على فوائد مرتفعة. وبالمقابل أدى ارتفاع سعر الفائدة إلى جعل تكاليف الإقراض للقطاعات الإنتاجية عالية جداً، فأصبحت منظومة الاقتصاد اللبناني التي تعتمد في الاستثمار والاستهلاك على الإقراض المصرفي، غير معنية بالاستثمار في القطاع الإنتاجي، بينما جهاز الدولة غارق بالدين العام ومنسحب تماماً من العملية الإنتاجية.

كما يشير الباحث اللبناني عبد الحليم فضل الله، إلى أن (أولوية الأهداف النقديّة والماليّة على الأهداف الاقتصاديّة والإنمائية) في النموذج اللبناني المستمر منذ مرحلة نهاية الحرب وإعادة الإعمار، كانت أهم الأسباب التي أدت إلى فشل برامج التنمية والإعمار في لبنان، حيث كانت تكلفة تثبيت قيمة الليرة اللبنانية أعلى من تكاليف الاستثمار، وفي هذا تناقض واضح، مع كون إعادة القيمة إلى الليرة اللبنانية يعتمد على حجم الاستثمار والإنتاجي منه تحديداً..

وكانت السياسة النقدية والمالية في لبنان هي سبب ونتيجة، لقرار القوى الاقتصادية اللبنانية في التركيز على أولوية ضيقة غير وطنية، في تحويل لبنان، وبيروت تحديداً إلى سوق مالي، ومركز خدمي، لتكون النتيجة بأن حجم الودائع المصرفية في لبنان أصبح 250% من الناتج، ولم يتم إنجاز عملية إعادة الإعمار في لبنان.

سورية على الطريق ذاته؟!..

السياسة الاقتصادية في سورية بدأت في السنوات الأخيرة تنحو هذا النحو، أي نحو جعل الأهداف النقدية والمالية محوراً في السياسة الاقتصادية، وفي مقدمة المؤشرات على ذلك هو تكييف السياسات الاقتصادية كلها، وأياً كانت النتائج مع فكرة مواجهة العجز، عبر تخفيض النفقات الاقتصادية والاجتماعية العامة لحدود قصوى تقشفية، والسعي لتوسيع الإيرادات من رفع أسعار الخدمات والسلع الحكومية فقط.

يضاف إلى هذا وضع هدف نقدي، لمواجهة الاضطرابات الحادة في سعر صرف الدولار في السوق، بأدوات محدودة قائمة على المصرف المركزي فقط، الذي استخدم احتياطي القطع الأجنبي، للدخول في عملية العرض والطلب في السوق بأشكال مختلفة، مرة عبر البيع للمواطنين، ثم عبر شركات ومكاتب الصرافة والمصارف وغيرها.. وصولاً إلى السياسة الأخيرة القائمة على (حبس الليرة السورية) الموجودة في المصارف، وعدم الموافقة على طلبات سحب الأرصدة الكبيرة، وهو الإجراء الذي لم تتبعه السياسة النقدية والمالية في بداية الأزمة، عندما خرجت الكتلة الرئيسية من الودائع في المصارف السورية.

كما أن السياسات المالية أوقفت عمليات الإقراض بشكل شبه كامل، رغم استقرار نسبي في سيولة المصارف، وتركت للمصارف مجال عمل وحيد، هو استخدام احتياطي القطع الأجنبي الذي تم السماح بتشكيله، وتداوله خلال عام، وكانت النتيجة عدم انكشاف خسارات المصارف العاملة وشركات التأمين، ولكن عبر المضاربة بالقطع الأجنبي على قيمة الليرة، حيث تشي أرباح المصارف الخاصة من تغيرات قيمة القطع الاحتياطي لديها التي تشكل نسبة 90% من الأرباح، بأن هذا القطع يجري تداوله وتشغيله في سوق الدولار الداخلية.

 علاج الأعراض يفاقم الأزمة

إن مجمل الأهداف السابقة مواجهة العجز، وضبط سعر الصرف، وحماية الليرة، والحفاظ على النشاط المصرفي والمالي ومنع خسارته، هي أهداف مشروعة وضرورية، إلا أن المفارقة أن الأدوات السابقة، إن نفعت فهي لا تنفع إلا كعلاج مؤقت يمنع ظهور الأعراض، ولكنه يفاقم الأزمة وتحديداً عندما لا يرفق بحلول جذرية.. فمواجهة العجز قد تتطلب ضبط النفقات وتوسيع الإيرادات، ولكنها تتطلب بالمقابل إبقاء قدرة الاقتصاد على خلق الموارد، أي إبقاء النشاط الإنتاجي وقدرات الاستهلاك العامة، وهو ما يتم هزّه بقوة في سورية، عبر السياسات التقشفية، وسحب الموارد من إمكانيات استهلاك الاجور.

وضبط سعر الصرف ومنعه من الارتفاع قد يتطلب استخدام احتياطي القطع الأجنبي لضخ الدولار في السوق، ولكن ليس إلى حد هدر 17 مليار دولار من  القطع الأجنبي في سياسة لم تفلح سوى في إبقاء السعر الرسمي مواكباً لمتغيرات السوق، وحولت القطع الأجنبي لصالح قوى السوق المضاربة.

وحماية المنظومة المصرفية تتطلب السماح بتكوين احتياطي قطع أجنبي، ولكنها تتطلب أيضاً عزلها عن المضاربة، وتحفيز استخدام الودائع بشكل إقراضي إنتاجي تؤمن له شروط النجاح والسداد في الظروف الأمنية المضطربة.

التمويل بالدين وسندات الخزينة..

تلتقي اليوم الكثير من الرؤى الاقتصادية عند آلية جديدة في السياسة المالية والنقدية يسوق لها على أنها الآلية الأهم لتمويل الخزينة العامة للدولة، وتحقق إلى جانب هذا زيادة الطلب على الليرة السورية، والحديث هنا عن الدين العام عبر سندات الخزينة، أي أن يصدر المركزي سندات خزينة، يقترض مقابلها من رؤوس الأموال، ويعيد لها فائدة، لتقوم الحكومة بتأمين إنفاقها بالدين..

من المشروع أيضاً استخدام الأموال الخاصة في دعم تمويل المال العام، إلا أن هذا الإجراء يكتنف على مخاطر إذا لم يتم الربط بين حجم نمو الدين، وحجم التراكم الاستثماري، والنمو الاقتصادي، ونمو الموارد العامة. ودون إيجاد مقياس دقيق للربط بين هذه المؤشرات فإن التمويل بالدين ذو آثار عالية السلبية من جانبين، الأول: زيادة أعباء الدين العام، وتحويل الموارد العامة لخدمة الدين، لأن رؤوس الأموال لا يمكن اجتذابها في المرحلة الحالية والمرحلة القريبة المقبلة إلا بفائدة عالية. والثاني: أن رفع أسعار الفائدة سيعيق استخدام السيولة لتحريك الإقراض باتجاه العمليات الإنتاجية، بسبب ارتفاع التكلفة. وكلا الجانبين يؤديان إلى زيادة العجز، وتراجع قدرات الدولة، وارتفاع سعر الصرف، وتراجع قيمة الليرة..

إن الإجراءات النقدية والمالية كلها، أياً كانت أهدافها الجزئية، تنقلب ضدها، إذا ما تعارضت مع عناصر الأزمة العميقة في الاقتصاد السوري اليوم، وهي تراجع قدرات الإنتاج والاستهلاك العامة، التي تحتاج إلى إجراءات معاكسة لكل ما تم اتباعه حتى اليوم، فالحل يكمن في تعبئة الموارد والدعم الحكومي الموجه للإنتاج الحقيقي والاستهلاك، وهذا لا يمكن أن يتم إلا بتقليص الأرباح التي تعتمد على المضاربة والريع والاحتكار في الظرف الحالي.