التشاركية: البحر طحينة وناموا بالعسل يا سوريين!
في المحاضرة الأخيرة التي قامت بها جمعية العلوم الاقتصادية حول (التشاركية) طرَح البعض سؤال ما البديل؟ أي ما هو النموذج الاقتصادي القادر على تحمل أعباء إعادة الإعمار وبناء اقتصاد سوري قادر على حل المشكلات المتراكمة قبل الأزمة وخلالها والتي ستلاحقنا مجتمعة مع مهمات ما بعد الأزمة؟
بمعزل عن سياق ذلك التساؤل والذي طَرحه البعض في تلك المحاضرة ككلام حق يراد به باطل (وليقول أن البديل الأمثل والوحيد هو التشاركية)، فإننا معنيون بالعمل على الإجابة عن سؤال مطروح منذ ما قبل الأزمة بكثير، فهو يقرع أذهان السوريين منذ مطلع الألفية الجديدة على الأقل، وهو سؤال: أي نموذج اقتصادي نريد؟!.
التشاركية.. رأسمالية الدولة..
شركات مساهمة!
وهنا ليس خافياً على أحد أن طرح حزب الإرادة الشعبية لمشروع برنامجه القائم على مبدأ تحقيق (أعلى نمو وأعمق عدالة اجتماعية) هو واحد من أبرز الإجابات عن ذلك التساؤل والتي لن نستطرد فيها الآن، فسنكتفي بمناقشة الطروحات الأخرى التي ذُكرت في المحاضرة على لسان أطراف مختلفة وما طرح خلالها من نماذج تمحورت حول ثلاثة طروحات اقتصادية بدت وكأنها تمثل اتجاهات ثلاثة في الاقتصاد السوري وهي:
نموذج رأسمالية الدولة ذات الطابع الاجتماعي.
نموذج الشركات المساهمة القائمة على مساهمة كافة شرائح الشعب.
التشاركية.
بداية لا بد من التنويه أن القاسم المشترك بين الطروحات الثلاث هذه، على الأقل كما تُطرح حتى اللحظة، أنها تستند إلى توصيف شكلي للنموذج الاقتصادي دون الخوض في مضامينه، فهي تضع إطارات لحلول دون الحديث عن المهمات الاقتصادية – الاجتماعية التي من الضروري حلها بهذه الإطارات، وكأننا نقول أن البنسلين حل للمريض السوري ولكننا لم نتفق بعد على تشخيص العلة التي نبغي حلها!
ولذلك تعد هذه الإطارات، والتي قد يبدو بعضها أقرب للجذرية من حيث الشكل، كما العربة أمام الحصان، فما تغفله هذه الطروحات هو جملة تساؤلات جوهرية تحدد مضمون أي بديل اقتصادي، فعلى سبيل المثال: هل علينا في المرحلة القادمة التركيز على إعادة إعمار ما تم تدميره مثلاً؟ أم علينا التركيز على حل مشكلتي الفقر والبطالة ومستوياتها المرعبة، أم حل مشكلة النمو، أم التفاوت الاجتماعي أم تدني الدخل وتراجع الإنتاج... إلخ إلخ من المهمات الاقتصادية التي لم تتحدث هذه الطروحات عنها أو عن أولوية حل أي منها وهي بذلك تنطلق من صياغة الشكل الاقتصادي لمضمون عملية مجهولة الوظيفة.
رأسمالية الدولة ونهاية المناورة!
مما لا شكّ فيه أن أصحاب هذه الطروحات أرادوا التعبير بشكل أو بآخر عن مصالح طبقية اجتماعية معينة، فطرح (رأسمالية الدولة ذات الطابع الاجتماعي) استند إلى تمثيل تحالف تقليدي بين الطبقة العاملة والبرجوزاية الصغيرة وما يعرف بـ(البرجوازية الوطنية) ولكن في مرحلته المتقدمة المستندة إلى دور رئيسي للقطاع العام، علماً إن هذا التحالف بدأ في مرحلة معينة من تاريخ سورية وفي ظل ظرف دولي سابق كانت البرجوازية السورية في حينه رافعة الاقتصاد الوطني ومضطرة للاستقلال حفظاً لمصلحة تطورها، وبالتالي وجدت في باب الاتجاه شرقاً نحو السوفييت طريقاً استراتيجياً للمناورة في سبيل بناء قدراتها الذاتية بعيداً عن هيمنة المراكز الغربية.
لاحقاً ومع هيمنة القطاع العام على الاقتصاد السوري وتوازع الأدوار بينه وبين البرجوازية الكومبرادورية بدأ ذلك التحالف بالانفضاض كونه بات يعكس مضامين جديدة، فالبرجوازية الوطنية الكبرى انتهت واابتلعت من القطاع العام، وحل محلها نواة برجوازية بيروقراطية (الفاسدون الكبار) تشكلت في رحمه وتطورت بالتحالف مع (الكومبرادور: البرجوازية التجارية) على حساب الطبقة العاملة وما تبقى من برجوازيات صغيرة.
ولذلك يقع هذا الطرح في فخ الصنمية إلى حد بعيد ومن حيث التوصيف الشكلي على الأقل، فهو يغفل إلى حد كبير درجة التحولات الطبقية والاجتماعية التي خضع لها المجتمع السوري والنظام الدولي أيضاً خلال 40 عاماً خلت لا سيما انهيار السند الدولي لذلك النموذج وهيمنة المركز الغربي على الأطراف الرأسمالية كلها في بلدان العالم الثالث ونجاحها في تحويل رأسماليتها إلى (طفيلية تابعة)، فانتهى عملياً ما عرف يوماً بالبرجوزاية الوطنية من حيث الأساس، وتغير حال البرجوازية الصغيرة لتنضوي غالبيتها في صفوف الطبقة العاملة والتي بدورها انهارت مكتسباتها تدريجياً إلى حدود تضع مصالحها في تناقض صارخ مع أي شكل من أشكال الرأسمالية اليوم.
تحالف البرجوازية (الصغيرة)
و(الكبيرة) بعث من في القبور!
إن طرح (الشركات المساهمة وبمشاركة أوسع فئات الشعب عبر إنشاء شركات خاصة أو حتى عامة أو مشتركة تقسم رساميلها على أسهم صغيرة ما يسمح لمحدودي الدخل بحيازة ملكية رأسمالية في هذه الشركات ويحل مشكلة التمويل ويحسّن من معيشة غالبية السوريين)، يبدو طرحاً مثالياً يعبق فيه الماضي، فهو يسعى لبعث الروح بالدور الأساسي لـ(لبرجوازية الوطنية) أيضاً، ولكن بالاستناد إلى دور أوسع للبرجوازية الصغيرة وزجّها بقوة لتحريك عملية النمو بقيادة برجوازية كبيرة تكون هي ضابط الإيقاع.
أصحاب هذا الطرح يحتاجون لتوضيح من يقصدون بالبرجوازية الوطنية اليوم أولاً وهل هي موجودة أم لا وماحجمها وما بنيتها ومطارح إنتاجها وارتباطاتها بـ(الطفيلية) وقدرتها على الاستقلال عن السوق الدولية وتقسيماته الصارمة للعمل؟ ثم ما حجم البرجوازية الصغيرة المتبقية القادرة على الاستثمار في الشركات المساهمة وإن بأسهم صغيرة؟ وكيف سيتم إقناعها إن وجدت؟ وبأية سرعة ستسير عملية النمو فيما لو انتظرنا عملية إقناع أصحاب الملكيات الصغيرة الاستثمار في مشاريع ناشئة، فمن سيقنع مالك لعقار يعتاش من أجره للاستثمار في شركة للإسمنت قيد الإقلاع على سبيل المثال وكم ستطول هذه العملية وهل بقدرتنا منع المضاربة بتلك الأسهم لحماية البرجوازية الصغيرة، أم ستسمح للمضاربة لتسريع عملية نمو الكبار فنسحق الصغار ويتحول الكبار إلى طفيليون ..إلخ إلخ؟ يبدو أننا سنضطر إلى إعادة إنتاج تلك البرجوازية لتعكس مزاج أصحاب ذلك الطرح، علماً أن إعادة إنتاج مثل هذه الشرائح الاجتماعية هي عملية تاريخية مستحيلة!
التشاركية وهم النيوليبرالية!
(التشاركية) الطرح القديم/الجديد وأصحابها لا يعلنون المهام الواجب إنجازها من تشاركيتهم هم أيضاً، إلا أنها ومن الناحية الطبقية ما هي إلا تمثيل لمصلحة أقسى أشكال النهب والرسملة وأكثرها وحشية والتي خضع لها الاقتصاد السوري قبل وفي ظل الحرب، ولا هدف لهذا الجزء من المقالة مناقشة هذه الفكرة من حيث تعبيراتها الاجتماعية والحكم على مدى صلاحيتها بالتالي، لكنه يهدف إلى تسليط الضوء على بعض المبررّات التي تساق حتى اللحظة لتبرير هذا النموذج والتي أبرزها ما يلي:
أولاً- أنه لا يوجد بديل عنها. وهنا توحي الفكرة أننا اختبرنا أو ناقشنا كل البدائل الأخرى ولم يتبقّ خيار لنا سوى التشاركية وهذا الأمر محض ادعاء، فعلى الأقل قمنا في هذه المقالة بمناقشة طرحين يستحقان النقاش وبمعزل عن النتائج إلا أنهما يستحقان النقاش أكثر من «التشاركية»، علماً أننا أشرنا إلى بديل حزب الإرادة الشعبية بمشروع برنامجه الاقتصادي الذي طرح للنقاش بخطوطه الأساسية في عام 2013.
ثانياً- تستند مقولة أن التشاركية بديل إلى أنها شيء جديد لم يختبر في الاقتصاد السوري، علماً أن نموذج التشاركية في مجال الزراعة مختبر منذ عام 1986، عداك عن تجريبه في مجالات السياحة منذ تسعينات القرن الماضي وكذلك الصناعة. (انظر العدد 739 لمناقشة أهم التجارب في سورية).
ثالثاً- توضع التشاركية كهوية ونموذج بديل للاقتصاد السوري علماً أنها ليست كذلك، فهي تعد أحد حلول مشكلة التمويل الافتراضية فقط، وهي تشكل جزءاً من هوية الاقتصاد النيوليبرالي لدول الرأسمالية الطرفية التي ينبغي تكييف اقتصادها لمصلحة المراكز ولذلك يتم إسقاط بقية ملحقاتها في التعريف عنها بشكل أو بآخر وتوضع جزافاً كنقيض للاقتراض من الخارج أو بديل للخصخصة وهي مكمل أو مفتاح لها وحسب.
رابعاً- تستند التشاركية كخيار وحيد إلى حجم رقم الدمار الضخم الذي بات له بورصة خاصة، فيزداد اضطراداً في المنتديات الدولية ومراكز البحث المرافقة والمتوازية مع الصمت الحكومي عن أرقامه، وبذلك تغدو وظيفة رقم الدمار تبريرية ودعائية أكثر من كونها واقعية مهما كبر الرقم، وعلى ذلك هو مطرح شك علمي باستمرار، وبالأحوال كلّها لا يوجد عاقل يفكر اقتصادياً بإعمار ما دمر على أساس التكلفة اللاحقة أو الحالية لما دُمّر، لكن سيغدو من الحكمة البحث عن الأولويات وإبداع تكييف الاقتصاد مع التكلفة الأقل في منطق الإنتاج اللاحق كله.
خامساً- إن طرح التشاركية كحل لنقص التمويل لا يستند لمعيار علمي، فنقص التمويل مرتبط بتحديد حجم المهمة أولاً ثم ترتيب الأولويات ثم البحث بالمصادر كافة ثم حساب التكاليف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للخيارات كلها، فأين هذه الحسابات من أولئك؟!