قمة البريكس: خرق الهيمنة المالية والنقدية الأمريكية
"لقد تم تشكيل الأسلوب الحالي لحوكمة وإدارة العلاقات الدولية والمؤسسات الناظمة لها في سياق اختلفت فيه الفرص والتحديات عما هي عليه اليوم.. لذلك فإننا نلتزم البحث عن نماذج ومقاربات تحقق تنمية عادلة ونمو عالمي شامل ومتكافىء..." البيان الختامي لقمة البريكس الخامسة عام 2013.
في الـ15 -16 من تموز الجاري عقدت دول البريكس قمتها السادسة تحت عنوان "النمو الشامل والمتكافىء: حلول مستدامة"، لتشكل مفصلاً في مسيرة المجموعة، إذ تم إطلاق بنك التنمية الجديد برأسمال أولي قدره (100) مليار دولار، ورأسمال مسجل (50) مليار دولار وفق نسب مشاركة متساوية من الدول المؤسسة (10 مليار دولار كل عضو)، على أن تكون مدينة شنغهاي في الصين مقراً مركزياً له، بالإضافة لمقر إقليمي في مدينة جوهانسبرغ في جنوب إفريقيا، على أن يكون أول رئيس للبنك من الهند، وأول رئيس لمجلس حكام المصرف روسياً وأول رئيس لمجلس الادارة برازيلياً. كما أن عضوية البنك مفتوحة لجميع الدول المشاركة في هيئة الأمم المتحدة سواء كانت مقترضة أو غير مقترضة من البنك، بالإضافة لذلك فإن الدول المؤسسة تتمتع بقوة صوت وتصويت متساوية.
تنمية البنى التحتية
يهدف البنك إلى تمويل مشاريع البنية التحتية والتنمية المستدامة، انطلاقاً من النقص في التمويل الذي تواجهه دول البريكس والدول النامية في هذا القطاع. إذ تشير الأبحاث إلى أن الفجوة بين الحاجة التمويلية للدول النامية في قطاع البنية التحتية وبين المتاح تتراوح بين (1- 1,4) ترليون دولار سنوياً، حيث يبلغ حجم إنفاقها السنوي في هذا القطاع 0,8-0,9 تريليون.
بإلقاء نظرة سريعة على مصادر تمويل البنية التحتية نجد أن الحكومات المحلية مسؤولة عن أكثر من 50٪ يليها تمويل القطاع الخاص الذي يشحّ في أوقات الحاجة الماسة إليه، كما تتركز استثمارات الأخير في هذا المجال في قطاعات كالاتصالات، كما يتركز في الدول متوسطة الدخل. أما التمويل الدولي عبر المساعدات المصروفة من المؤسسات الدائرة في فلك دول المركز الرأسمالي فلا تتجاوز مساهمته 8-10٪ من الإنفاق الحكومي في هذا القطاع، وهذه تترافق مع اشتراطات تطبيق برامج "التصحيح الهيكلي" سيئة الصيت.
الخيار البديل
بعد انفجار الأزمة عام 2008 حاولت المجموعة العمل من داخل المنظومة المالية والنقدية السائدة، فدفعت باتجاه تغيير أسلوب إدارة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي التي تعطي بشكلها الحالي الكلمة الفصل للولايات المتحدة. فالقاعدة غير المكتوبة تقضي أن يكون رئيس البنك الدولي من الولايات المتحدة (عدة منهم شغلوا منصب وزير دفاع)، وأن يكون رئيس صندوق النقد الدولي أوروبي (العديد منهم ينتمي للاشتراكية الديمقراطية)!. لذلك طالبت دول البريكس أن يتم اختيار رئيس البنك الدولي عبر عملية مفتوحة لا تستثني أحداً وشفافة ومستندة إلى الجدارة، الأمر الذي توج بالاتفاق على حزمة إصلاح صندوق النقد الدولي في عام 2010. تضمن التعديل المقترح حينها زيادة رأسمال صندوق النقد الدولي إلى 720 مليار دولار، وتحويل 6٪ من الكوتة الكلية إلى الدول النامية، بالإضافة إلى تحويل اثنين من 24 مقعداً أوروبياً في إدارة الصندوق إلى دول نامية. الإصلاح المفترض كان سيحفظ للولايات المتحدة مركز المساهم رقم واحد في رأس المال ولكن كان سيجعل من الصين الثالثة ومن روسيا والهند والبرازيل من الدول العشر الأوائل المساهمة، دون أن يتم نزع حق النقض الفيتو بالتصويت من الولايات المتحدة. ورغم ذلك، تم إجهاض المشروع إذ لم يصادق الكونغرس الأمريكي على هذا المقترح في بداية عام 2014 (من ضمن الحجج المساقة هي أن التعديل المقترح سيعيق سعي الولايات المتحدة لاستخدام صندوق النقد الدولي كأداة في المعركة الجارية في أوكرانيا)!.
صندوق التحوط المالي للبريكس
إضافة لبنك التنمية جديد دول البريكس، أقر الاجتماع الحالي تشكيل "صندوق احتياط مالي" مشترك برأسمال قدره (100) مليار دولار، بمساهمة قدرها 41 مليار دولار من الصين، 18 مليار لكل من روسيا والهند والبرازيل، و5 مليار من جنوب أفريقيا. وبالرغم من تفاوت نسب المشاركة برأسمال الصندوق فإن معظم القرارات ستؤخذ بالإجماع، إلا بعض المسائل والتي تتضمن الموافقة على منح السيولة المطلوبة من قبل احدى الدول فتأخذ بالأغلبية (التي تأخذ بعين الاعتبار الوزن النسبي لصوت كل بلد حسب نسبة مشاركته). كما تم تحديد سقف للسيولة التي يحق للدول المؤسسة سحبها من البنك على شكل مضاعفات لنسبة مساهمتها برأسماله، والذي يبلغ (0,5) بالنسبة للصين (أي يحق للصين استخدام 20,5 مليار دولار تقريباً في لحظات الطوارئ)، و(1) بالنسبة لكل من روسيا والهندوالبرازيل (أي 18 مليار لكل منهم لحظة الطوارئ) و(2) بالنسبة لجنوب إفريقيا (أي 10 مليار دولار).
تبقى مشكلة هذا الصندوق الجديد في أنه يمنح 30% من المبلغ المطلوب فقط من دون أي تحكم لصندوق النقد الدولي واشتراطاته، أما الباقي فيتم منحه عبر برنامج تحت إدارة صندوق النقد الدولي، الأمر الذي خيب آمال البعض الذين اعتقدوا أنّ صندوق تحوط البريكس سيكون خرقاً كاملاً على صعيد فك الارتباط مع الصندوق الدولي، فيما يخص منح سيولة الطوارىء.
أدوات المواجهة الجديدة
يهدف صندوق التحوط المالي لدول البريكس لتأمين سيولة قصيرة الأجل لمواجهة الضغوط على ميزان المدفوعات والأزمات المالية الناجمة عن خروج رؤوس الأموال من الأسواق المالية. طبعاً تأتي أهمية هذه الخطوة ضمن سياق حرب العملات التي تشنها دول المركز ضمن ما يسمى بالدول والأسواق الصاعدة وتحديداً ما يسمى بسياسات "التيسير الكمي" التي سادت السياسات النقدية للولايات المتحدة الأمريكية واليابان إبان أزمة 2008 ومؤخراً في أوروبا. حيث ترتكز هذه السياسة على ضخ الاحتياطي الفيدرالي الأميركي لكميات كبيرة من الدولار مقابل شرائه سندات مالية للمؤسسات المالية الأميركية مثل سندات الرهن العقاري.
تتهم دول البريكس الولايات المتحدة بأن سياستها هذه تدخل في نطاق استراتيجية حمائية تجارية هدفها تخفيض قيمة الدولار لرفع مستوى الصادرات الأمريكية باتجاه الأسواق الصاعدة. كما أن هذه السياسة التي من المفترض أن وظيفتها تجاوز الأزمة عبر تنشيط الطلب الداخلي الأميركي، تترجم على أرض الواقع باستثمار المؤسسات المالية للضخ الدولاري في المضاربة بالأسواق العالمية بما فيها سوق العملات والمواد الأولية التي تشكل عائداتها العنصر الأساسي للعائدات التجارية لدول المحيط، وذلك في سياق انخفاض معدل ربح الاستثمار في القطاعات الحقيقية كنتيجة حتمية للتطور الرأسمالي. يذكر أن الولايات المتحدة كانت تضخ عبر سياسة التيسير الكمي (85) مليار دولار شهرياً حتى نهاية عام 2013 ولاحقاً تم تخفيضها إلى 45 مليار دولار في عام 2014 وتدنت حالياً إلى 35 مليار دولار شهرياً، الأمر الذي تُرجم بموجة هروب لرأسمال المال المضارب مما ترجم بانهيارات جزئية في قيم عملات الأسواق الصاعدة.
خطوة إلى الأمام
إن نتائج قمة البريكس تدق مسماراً إضافياً في نعش الهيمنة الاقتصادية الأمريكية وتحديداً على صعيد النظام المالي والنقدي الدولي، ولا ينقص من قيمتها كونها خطوة إصلاحية من داخل المنظومة، إذ توسع هذه الخطوة هامش المناورة على الصعيد الاقتصادي لدول المحيط التي ننتمي إليها، بشكل خاص بنك التنمية الذي يوفر مصدراً تمويلياً بديلاً لحد بعيد. إذ تشير ممارسات دول البريكس إلى قطعها مع النموذج الأمريكي والأوروبي والذي يشترط تطبيق برامج "إعادة هيكلة اقتصادية" في البلد المستفيد مقابل منحه القروض، حيث تقوم سياسات "إعادة الهيكلة الاقتصادية" على الخصخصة والتحرير التجاري والمالي والنقدي وأسواق العمل وإزالة الدور الاجتماعي للدولة لمصلحة الفئات المفقرة تؤدي بنهاية المطاف إلى انهاك وربما إنهاء الدولة الوطنية. كما يعد استهداف بنك التنمية الجديد لتمويل القطاعات الإنتاجية والبنية التحتية قطعاً مع طابع استهدافات المؤسسات المالية السائدة، التي تمول قطاعات ليست ذات أولوية.
إن ظهور مجموعة دول البريكس على المسرح السياسي والاقتصادي الدولي جاء كنتيجة مباشرة لانفجار الأزمة الرأسمالية في عام 2008، إذ عبّر تشكيلها عن أحد التناقضات الرئيسية والشديدة للمنظومة الرأسمالية في الوقت الراهن، التناقض بين حاجات تطور دول المحيط الكبرى وسعي المركز الرأسمالي في الولايات المتحدة لفرض هيمنته التي تفترض حجز تطور كل القوى ذات الكمون الإقليمي فما بالنا بالقوى ذات الكمون الدولي. إن هذا التناقض وسع وسيوسع بإضطراد أفق التقدم لدول المحيط المتوسطة والصغيرة إذا ما أحسنت إدارة سياساتها الاقتصادية الداخلية وعلاقاتها الدولية.
إن مستوى الترابط المالي والنقدي والتجاري العميق جداً بين دول البريكس يجعل صراعهم مع دول المركز أشبه بالمشي على الحبال، الأمر الذي يفسر جانباً من الخلافات البينية لهذا الفريق التي لا بد من لحظها ورصدها، لكن مستوى عدوانية الولايات المتحدة الأمريكية ورفضهم احترام مصالح القوى الصاعدة، بالإضافة للأفق الواعد بتعمق الأزمة الرأسمالية، كل ذلك ينبئ بأن هذه الخطوة هي غيض من فيض، هذا عدا عن الإمكانية الجدية لحصول تحولات اجتماعية جذرية داخل دول البريكس.
إن كل ماتقدم يؤكد صحة الاستنتاج القائل بأن انفتاح الأفق أمام الشعوب هو سمة العصر، رغم كل آلام المخاض في منطقتنا.