المناطق الحرة تحايل على السياسات الحمائية في الدول النامية
دأبت السياسة الاقتصادية منذ أعوام طويلة على التخطيط لإقامة مناطق حرة عديدة قريبة من السواحل أو الحدود، وذلك بناء على فلسفة سياسة الأسواق الحرة التي تدعو لها الدول المتطورة رأسمالياً، والتي ترغب في إقامتها بالدول النامية بقصد التحايل على سياسات الحماية فيها..
خدمة مجانية للدول المتطورة
تخدم المناطق الحرة الدول المتطورة اقتصادياً، وهي ليست بالتأكيد في مصلحة الدول النامية، لأن شركاتها ومصانعها صغيرة جدا بدرجة لا تقارن مع شركات ومصانع الدول الغربية، والتي يتجاوز رأسمالها وحجم مبيعاتها مثيله في الدول النامية، ومنها الدول العربية مجتمعة بمئات المرات، ناهيك عن سيطرة الشركات الغربية العملاقة على الأسواق العالمية وعلى الأسواق الداخلية في الدول النامية ذاتها التي تشكلت عبر عقود من السنين خلال فترة الاستعمار القديم، وتكرست عبر الاستعمار الحديث بآليات جديدة، ناهيك عن توفر إستراتيجيات للتصدير ودعم حكومي في الدول الرأسمالية على عكس ما تبشر به في الدول النامية وتطالب بإلغاء لكل أشكال الدعم، في حين لا تتوفر غالباً في الدول النامية ومنها سورية أية إستراتيجية للتصنيع أو التصدير، بل نجد على العكس أن الصناعيين يطالبون بأن تبيعهم الدولة المواد الخام كالقطن مثلاً بسعر التصدير في حين تطالبهم بسعر أعلى!
غياب التقييم
ليس لسورية أن تقيم أية منطقة حرة مع أية دولة أجنبية أخرى، ولو كانت صديقة، باستثناء الدول العربية الأخرى التي تسعى لإقامة تكامل اقتصادي معها وصولاً ذات يوم إلى إقامة دولة الوحدة العربية، ويمكن إقامة تعاون اقتصادي وتقسيم عمل مشترك بين الدول الصديقة بعد دراسة الكلف والمنافع على المدى القريب والبعيد، وتوزيع المنافع بشكل عادل بين الأطراف المختلفة، لم تتم أية دراسة اقتصادية لاتفاقية المنطقة الحرة مع تركيا مثلا، لأنها كانت بالفعل خاسرة بالنسبة لسورية.
هذا الغياب للتقييم، أدى إلى إفلاس الكثير من الشركات التي تعمل في الأثاث بسبب المنافسة غير المتكافئة بين شركاتنا الصغيرة والشركات التركية الكبيرة، وبين رأسمال شركاتنا المتواضع مقارنة برأسمال الشركات التركية! كما ارتفعت وارداتنا من تركيا 2،1 مليار ل.س عام 1999، حيث شكلت 4،9% من إجمالي الواردات، وبلغت صادرات سورية 3،6 مليار ل.س في العام نفسه التي شكلت 9،25% من إجمالي صادرات سورية. أما في عام 2009 فقد بلغت واردات سورية من تركيا 54،27 مليار ل.س، أي 7،6% من إجمالي الواردات. وبلغت صادرات سورية 14،7 مليار ل.س، أي 3،01% من إجمالي الصادرات، بتعبير آخر ارتفعت صادرات تركيا إلى سورية بين 1999- 2009 إلى 25،8 ضعفاً، في حين ارتفعت واردات تركيا من سورية 4 أضعاف فقط! خسرت الخزينة إيرادات الجمارك وخسرت الشركات السورية جزءاً من أسواقها التقليدية وأفلس بعضها وسرح البعض الآخر بعض عماله وتراجعت أرباح الكثير من الشركات، فخسرت الخزينة حصة من ضرائب الدخل التي كانت تتقاضاها من تلك الشركات فو ق ذلك، والسؤال الأساس كيف تم اعتبار تركيا حليفاً للعرب ولسورية، وهي العضو في حلف الأطلسي، والتي تطمح كي تصبح عضواً في الاتحاد الأوربي، وتقيم علاقات عسكرية واقتصادية متينة مع «مشروع إسرائيل»؟!
تركيا السادسة باستيعاب صادرات «إسرائيل»
توجهت 3،87% من صادرات «مشروع إسرائيل» الصناعية (عدا الماس) عام 2008 إلى تركيا، وكانت حصتها أعلى من حصة كل من الصين والهند والبرازيل وكندا وكوريا الجنوبية واليابان وروسيا! أليس يشير هذا إلى أن العلاقات الاقتصادية وثيقة جدا بين تركيا و«مشروع إسرائيل»؟ ارتفعت حصة تركيا من واردات أوروبا من «مشروع إسرائيل» من لا شيء عام 1950 إلى 7،35% عام 2008 (المصدر: د. حسين أبو النمل- مؤتمر السياسة الخارجية الأوروبية تجاه القضية – الورقة الثانية- بيروت 2010، صفحة24).
واحتلت تركيا الموقع السادس في استيعاب صادرات «مشروع إسرائيل»، ويقول د. حسين أبو النمل: «كيف نضمن عدم استغلال «مشروع إسرائيل» للسوق التركية كمنصة للقفز إلى الأسواق المجاورة؟» (المصدر نفسه، صفحة 35)..
نلاحظ أن دولا صغيرة مثل قبرص وبلجيكا- لوكسمبورغ وتركيا، هي التي تتولى دور الوسيط نيابة عن الاتحاد الأوروبي في تسويق منتجات «مشروع إسرائيل» في الوطن العربي والعالم الإسلامي برمته، بحيث تبقى الدول الأوروبية الكبرى بمنأى عن اللوم عندما يقاطع العرب هذه الدويلات، ناهيك عن قربها الجغرافي من الوطن العربي، خاصة تركيا وقبرص. إن الكثير مما تستورده تركيا وقبرص من «مشروع إسرائيل» معد لتصديره إلى الوطن العربي والعالم الإسلامي، فكلاهما قناع ومعبر لصادرات «مشروع إسرائيل» إلى الوطن العربي بكم هائل يوفر كلفة النقل.
يقول د. أبو النمل: «إن أوروبا حقوق الإنسان والشفافية، هي المصبغة الجهنمية الكبرى لتنظيف/لتبييض السلع الإسرائيلية السوداء، بل الحمراء والملونة بالدم الإفريقي، ثم تجد طريقها بعد ذلك إلى الأسواق العربية والإسلامية أيضاً، فتتحول مالاً يغذي آلة الحرب الإسرائيلية، وهي تلون كل يوميات زمننا الفلسطيني والعربي بالدم».(المصدر نفسه، صفحة34)..
جدار جمركي للصناعات الناشئة
أقامت جميع الدول الاشتراكية والرأسمالية جداراً جمركياً مرتفعاً لحماية صناعاتها الناشئة، وبدأ النقاش حول اتفاقية التجارة الحرة الدولية بعيد الحرب العالمية الثانية، واستغرق إقرارها قرابة نصف قرن، مفصلة بتفاصيلها المستفيضة حسب مصالح الدول الرأسمالية الكبيرة، وما على الدول الصغيرة إلا أن تذعن! ولا تزال الدول الكبرى تمتنع عن تنفيذ بنود هذه الاتفاقية،عندما يتعارض تطبيقها مع مصالحها الاقتصادية، كما فعلت الولايات المتحدة الأمريكية مع الصين.
الخسارة حصتنا من المناطق الحرة
ليس لدينا أية مصلحة في إقامة مناطق حرة مع دول أجنبية لن نجني منها إلا الخسارة! فلنطور صناعتنا الوطنية أولا، ولنعد إستراتيجية للتصنيع، وإستراتيجية للتصدير، فنضمن تشكل فائض قيمة مجز، فأرباحنا في تصدير المواد الخام، وخاصة منتجاتنا من القطاع الزراعي بشقيه النباتي والحيواني، زهيدة جداً، ولن نقطف ثمار التصدير إلا بعد تطوير الصناعة الوطنية بشكل كبير جداً، ونحن مازلنا بعيدين عن ذلك كثيراً.
إيرادات الجمارك ينبغي أن تكون وفيرة لنتمكن من تمويل استثماراتنا الصناعية القادمة، ولكي نستطيع أن نجعل صادراتنا مربحة جداً مثل غيرنا من الدول التي تطورت صناعياً واقتصادياً، وينبغي أن تعد وزارة الصناعة إستراتيجية اعتماداً على «العقول العربية» وانطلاقاً من التنمية المستقلة، ويجب ألا نترك هذه المهمة الجليلة لـ«خبراء» من دول عدوة كالدول الغربية، والذين يريدون تدمير اقتصادنا ومجتمعنا كما فعل الفريق الاقتصادي السابق، وها قد حصدنا النتائج المرة لتطبيق هذه السياسات..