أسطوانة الغاز تطارد السوريين في أحلامهم على امتداد عام كامل...  والأزمة استعصاء اقتصادي يحل على ثلاثة مستويات

أسطوانة الغاز تطارد السوريين في أحلامهم على امتداد عام كامل... والأزمة استعصاء اقتصادي يحل على ثلاثة مستويات

لا يختلف متابعون على أن الأزمات التي تركتها الحكومة السابقة، هي من يجب أن تتربع سلم أولويات وجدول أعمال الحكومة الحالية، و»النق» لا ينفع على هذا الصعيد، فتذرّع البعض بأنه غير مسؤول عن أزمات افتعلتها حكومة سابقة لا يعفيه من أولوية حلها، فالسوريون لا يعنيهم من افتعل الأزمات السابقة بقدر ما يشغل هواجسهم تأمين حاجاتهم الأساسية، وهذا حق لهم، وواجب على الحكومة تأمينه، والقول بافتعال الأزمات السابقة يتطلب محاسبة كبار الضالعين فيها، بدلاً من تحميل السوريين بأغلبهم وزّر نتائجها، وقد يعتبر هذا هجوماً استباقياً على الحكومة الجديدة، إلا أن «الاحتياط واجب»..

الغاز يطارد السوريين في أحلامهم

لم يكن توقع حدوث أزمات معيشية على أكثر من صعيد يحتاج لدهاء اقتصادي، وهذا ما فشل في استشرافه وزراء سابقون بالدرجة الأولى، وعجزوا عن ملاقاته بحلول طارئة وإستراتيجية تجنّب المواطن والبلاد اختناقات اقتصادية متلاحقة كان من الممكن تفاديها أو التقليل من حدتها وتأثيرها بالحد الأدنى، وهذا ما يمكن إسقاطه على أزمة الحصول على اسطوانة الغاز المنزلي التي لحقت السوريين ثلاث مرات في عام واحد، ولكل أزمة ثلاث مراحل طور الظهور والذروة والتلاشي، والتي استمر تأثير كل واحدة منها لأشهر، أي أن اسطوانة الغاز ظلت تطارد السوريين في أحلامهم على امتداد عام كامل، ولا تزال خلفهم حتى الآن، فهل من استعصاء حقيقي في تأمين الغاز المنزلي؟! وكيف يمكن كسر هذا الاستعصاء إذا كان حقيقياً؟! وما دور مافيا الفساد، التي جرى تلميع دورهم وتسميتهم بتجار الأزمات في تطور الأزمات واستمرارها؟!

للغاز محتكروه أيضاً

ليس من السرية بمكان القول إن سورية تنتج محلياً ما يقارب 50% من حاجة السوق الداخلية، بينما كان يجري استيراد الـ 50% الأخرى من دول الاتحاد الأوروبي، وهذا يعني أن النقص المفترض في حاجة السوق المحلية يقارب النصف تقريباً، وهذا بحسب القانون الاقتصادي القائم على العرض والطلب، كان سيقابل بارتفاع سعر الاسطوانة الواحدة في السوق السوداء إلى الضعف قياساً بسعرها الرسمي، أي أن تباع الاسطوانة الواحدة بنحو 800 ليرة، إلا أنها تباع في واقع الأمر بما يقارب 5 أضعاف سعرها الرسمي، وهو ما يتجاوز ألفي ليرة للاسطوانة الواحدة، لا بل إنه وعلى الرغم من تخفيض وزن اسطوانة الغاز بمقدار 2 كيلو، والذي يعني بالمحصلة الكلية زيادة عدد أسطوانات الغاز المتاحة للسوريين بنحو 17%، إلا أن هذا الإجراء لم يخفّض سعر أسطوانة الغاز في السوق السوداء، ولم ينجح في حلحلة بسيطة لاستعصاء توفرها في الأسواق، بينما يفترض القانون الاقتصادي عكس ذلك تماماً، وهذا يؤكد تساؤلاتنا في مقالات سابقة عن كيفية توفر مادة الغاز في السوق السوداء بأسعارها الرائجة وعدم توفرها بالسعر الطبيعي من منافذ التوزيع، وعن الوسيلة التي يؤمن بها العاملون في السوق السوداء تلك الأعداد الكبيرة من أسطوانات الغاز، وفي كل هذه الدلائل تأكيد واحد على وجود احتكار من جانب بعض المتنفذين الكبار المسيطرين على مادة الغاز، وهم من يتحكمون في عملية انسيابه، وتخفيف حدة الأزمة الحالية في توفر مادة الغاز يتطلب كسر هذا الاحتكار، وكبح سيطرة المتنفذين الكبار من جانب الحكومة الحالية..

حل جزئي

لأزمة الغاز أسباب عدة وتجليات مختلفة، فالخلل في التوزيع ناتج عن وجود شبكات من الفاسدين الصغار من معتمدي التوزيع 15 عشر ألفاً المنتشرين في المحافظات السورية، وما يرتبط بهؤلاء جملة من المنتفعين والمدافعين والحامين لهم من المحاسبة، كما أن لمافيات الاحتكار الدور الآخر من الأزمة، كما يعتبر التعنت الحكومي الرافض لأي تحول في العلاقات الاقتصادية باتجاه الشرق والجنوب صاحب الدور الأكبر في حصول تلك الأزمات، وهذا التشخيص يشكل بوابة الحل بكل تأكيد، فمافيات احتكار مادة الغاز لا يمكن للسوريين العاديين أن يكون لهم دور في ضبطهم، وملفهم سيوضع في ذمة الحكومة الحالية، والتي هي الأقدر بفعل القانون والصلاحيات على ضبطهم، إلا أن شبكات الفاسدين من الموزعين وتجاوزاتهم تبقى بجزء غير قليل منها في عهدة رقابة اجتماعية هي الأكثر قرباً وقدرة على رؤيتها ومتابعتها، والتي عليها التشارك مع الأذرع الرقابية الحكومية في ضبط عملية التجاوزات في توزيع مادة الغاز على مستوى الوحدات الإدارية، إلا أن تلك العملية بمجملها لا توفر أولاً وأخيراً سوى نسبة 50% من حاجة سوق متعطشة لمادة الغاز، وتجاوز مشكلات التوزيع يشكل حلاً لجزء من الأزمة، لأن الجزء الأخر مرتبط بتوفر المادة في الأسواق المحلية، والذي لا يعود للعقوبات الاقتصادية وإنما للإصرار الحكومي ومن جانب وزير النفط السابق بشكل أساسي على عدم التحول شرقاً، والذي سيحل جزءاً من أزمة الغاز المستمرة..

بارقة أمل

إذاً، أمام الحكومة حلٌ لتجاوز أزمة الغاز التي أذلت السوريين على امتداد شهور طويلة، وهو الإسراع في عقد صفقات مع شركاء في الشرق كروسيا وإيران، وفي الجنوب كفنزويلا، وهؤلاء من جرى تجاهل إمكانية كونهم بديلاً للأوروبيين والأمريكيين طوال عقود من الزمن، فالغاز لا يحتكر إنتاجه وبيعه الأوروبيون والأمريكيون، بل إن روسيا هي ثاني الدول عالمياً في إنتاج الغاز، وفنزويلا وإيران من أكبر الدول المنتجة للغاز، فمن لا يريد التوجه نحو هذه البلدان، هو المفتعل الأول لأزمات الشعب السوري، وهو المستفيد منها بالضرورة، وهذا يؤكد أن مفتعلي الأزمات هم من عرقلوا التوجه شرقاً وجنوباً على امتداد عام ونصف تقريباً رغم العقوبات الأوروبية، وهم من سعوا في السابق لعقد شراكة استراتيجية مع الأوروبيين على حساب الاقتصاد الوطني..

العقوبات فرصة يجب استغلالها

السياسات السابقة التي انتهجتها الإدارة الاقتصادية في السنوات الطويلة الماضية، سعت لإقصاء الدول الشرقية في التعامل الاقتصادي، وعملت على تفضيل الأوروبي عليهم رغم شروطه المجحفة بحق الاقتصاد الوطني، وذلك في سبيل خدمة مصالح البعض ومنفعتهم الفردية، وبفعل تمسك بعض المستفيدين في الإدارة الاقتصادية بفسادهم على حساب المواطن السوري، لأنهم لم يجدوا من يوقفهم عند حدهم، فتمادوا في نهبه، لأن إجبار البعض على شراء اسطوانة الغاز بخمسة أضعاف سعرها الرسمي تحت ضغط ووطأة الحاجة، هي عملية نهب من العيار الثقيل، والتي لا تزال مستمرة حتى الآن، وستثبت الأزمة لاحقاً أنها أنتجت طبقة جديدة من الأغنياء الذين سيجمعون ثروات طائلة على حساب الشعب السوري ولقمة عيشه..

فالمواطن كان يمكن أن يتأثر بالعقوبات الأوروبية والأمريكية في بداية تشديدها منذ أكثر من عام تقريباً، بفعل عنصر المفاجأة، وعدم إمكانية حدوث انعطاف فوري في العلاقات من الكتل الاقتصادية البديلة على الصعيد العالمي، وبما يؤمن حاجة السوق الداخلية مباشرة، أما اليوم، فإنه يفترض بالإدارة الاقتصادية أنّها بحثت عن البدائل المتاحة، وهذا ما أصرت الحكومة السابقة على عدم حصوله، ويجب عقد الصفقات معها بما يؤمن حاجة السوق الداخلية، فلا يمكن أن يتقبل احد مقولة التأثر بالعقوبات التي يفترض بها أن تشكل فرصة لتغيير الشركاء الاقتصاديين انطلاقاً من حاجة الاقتصاد والمواطن، وضرورة تفعيل الإمكانات المحلية لأن العقوبات تشكل تحدياً وفرصة يجب استغلالها في بناء اقتصاد قوي يعتمد على إمكاناته الذاتية، أسوة بالعديد من الدول التي استغلت الحصار الاقتصادي المفروض عليها لبناء اقتصاد قوي وقادر على تحقيق الاكتفاء الذاتي...