النتائج السوداوية الدجناء الناجمة عن البرامج الصماء
يجب الاعتراف أنه من المسلمات في الإدارة الاقتصادية والنهج الاقتصادي هو المرونة الدائمة بما يتناسب مع المتغيرات الدولية وبما يتناسب مع مقتضيات المتطلبات السياسية، وبالتالي عدم اللجوء إلى القوالب الجامدة، التي يؤدي التشبث بها إلى نتائج سلبية، وخاصة إن كانت هذه القوالب مفروضة من مؤسسات العولمة المتمثلة بالبنك الدولي، أو قوالب تحابي مصالح خاصة. فمع مرور الزمن تتحول هذه النتائج إلى كوارث اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية، وخير مثال على ما نقول هو النهج الاقتصادي للولايات المتحدة والدول الغربية راعية الليبرالية والنيوليبرالية ومخترعة النظريات الطنانة الفارغة «السوق تنظم نفسها»، و«دعه يعمل دعه يمر» لمواجهة الأزمة العالمية المالية التي تحولت إلى أزمة اقتصادية، ومن ثم إلى اجتماعية وأزمة ديون عن طريق تدخل الدولة لدعم البنوك وشراء بنوك بطريقة التأميم وزيادة الإنفاق العام، على عكس ما تفرضه على الدول الأخرى بشتى الأساليب، بالاستقطاب أو بالترهيب أو بالحروب، وما تقوم به الولايات المتحدة منشأة منظمة التجارة العالمية ومديرتها بالانقلاب على القرارات التي تصدرها من خلال فرض رسوم حمائية ضد البضائع الصينية واليابانية ومن الاتحاد الأوروبي، وما قامت به روسيا بعد تأكيد تثبيت النموذج الجديد من خلال الإصلاحات الاجتماعية وشراء الدولة لقطاعات اقتصادية هامة في النفط وغيرها، وبالتالي المرونة في السياسة الاقتصادية بما يتناسب مع المعطيات الداخلية وبما يضمن تصحيح الاختلالات التي تصيب الواقع الاقتصادي.
وهكذا، يمكننا الاستنتاج بأن ما فرضه البنك الدولي من وصفات جاهزة لدول مختلفة ذات بنى اقتصادية واجتماعية وثقافية وجيوسياسية مختلفة، لا يمكن أن يكون الدواء الشافي ومحرك التنمية لكل هذه الدول المختلفة البنيان، وهكذا حصل مع تجارب دول مختلفة كالجزائر ومصر والأردن واليمن والبرازيل وغيرها، حيث كانت النتائج كارثية وسببت الخلخلة الاقتصادية والاجتماعية في هذه البلدان، وبالتالي الهدف الأسمى للغرب هو قطع التنمية من أجل استمرار التبعية القائمة على أساس أن تظل هذه الدول سوقاً لتصريف منتجاتها، وأن تظل مصدراً للمواد الأولية ومصدراً لنهب الخبرات والعقول، وأن تظل أمورهم الداخلية في توازن قائم على هذه المعادلة..
وهنا نطرح السؤال التالي: هل تطبق البلدان الغربية والولايات المتحدة النموذج الليبرالي على شعوبها؟ أليس ما تقوم به هذه الدول راعية الليبرالية داخل بلدانها أقرب للنموذج الاجتماعي المضبوط من الدولة؟ أليس النموذج الليبرالي الذي فُرض من جانبهم هو أساس الكوارث التي نجمت عن الأزمة المالية، وأساس عولمة هذه الأزمة على باقي الدول باستثناء النبع الذي يقوم على دعم اقتصاده بقوته العسكرية وبالدولار القوي من دون أي غطاء، وبالتالي هذه الدول التي تفرض الشكل الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي على الدول الأخرى لاستمرار التبعية، لا تتقيد بالنموذج، وتختار سياساتها بمرونة تتناسب مع مقتضيات الواقع، وبالتالي فإن المرونة أمر ضروري بما يقتضيه الواقع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي، لكن أي خروج عن متطلبات الواقع سوف تكون نتائجه التنموية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية كارثية.
لقد كانت سورية من الدول القليلة التي تجاوزت الأزمة التي حلت بالمعسكر الاشتراكي، وذلك لأسباب كثيرة منها عدم ارتباطها المطلق بالاتحاد السوفيتي من ناحية التبعية التامة الاقتصادية والاجتماعية، ومن ناحية الوصول إلى انصهار اجتماعي ناجم عن تطبيق سياسات اقتصادية واجتماعية وفكرية وثقافية تراعي الوضع القائم في سورية، وتتناسب مع ظروف وتطلعات الجماهير، هذا الانصهار الذي كان السند القوي والمتين للموقع الجيوسياسي لسورية العروبة، وبالتالي لم تخضع سورية للأمر الواقع بانتصار الليبرالية كما يتكلم المنظرون الجدد ممن تسلقوا قطار الاشتراكية والآن يريدون حرف هذا القطار عن سكته الطبيعية، فسياسة الأمر الواقع والالتزام بالواقع كما هو «هي سياسة غريبة عن سورية فالكيان الصهيوني هو موجود، ولكن لم يصبح أمراً واقعاً وانتصار المقاومة في لبنان والعراق وفلسطين والانهزام الحقيقي في أفغانستان، هو تحد للواقع وعدم الرضوخ له بما يقتضيه البناء الفكري والإيديولوجي لهذه القوى, إن الانعكاسات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية للقوالب الصماء تحاول أن تخلخل البناء الاجتماعي والثقافي والسياسي عن طريق خلخلة البناء الاقتصادي، فالأهم محاباة فئة قليلة وسحق الشريحة الوسطى ذات المعايير المالية والأخلاقية، ومن ثم تسطيح الثقافات وتغيير العادات والتقاليد والقيم والثقافات عن طريق الإقحام دون المرور بعقلانية تؤدي إلى تجديد هذه الثقافات بما يتناسب مع واقعنا وكذلك خلخلة البناء الفوقي من أجل فرض واقع فكري جديد تمهيداً لولادات جديدة على أنقاض الأيديولوجيات القائمة والتي أدت إلى بناء سورية الحديثة متناسين أن تاريخ سورية وماضيها وحاضرها وموقعها الجيوسياسي يقتضي أن تكون على أهبة الاستعداد لخفايا كثيرة تحاك في الخفاء، فقد أفشل مشروع الشرق أوسط ولكن لم ينته عند دول تضع خططاً استراتيجية لعشرات السنين وطالما أن هذه الدول توازن داخلها اعتماداّ على نهب وسلب وتبعية الآخرين، وبالتالي ما يتوهم به البعض وما يحاولون الترويج له، بدءاً باتهام الإيديولوجية الاشتراكية بسبب الفساد وصولاً إلى إعلان انتهاء الاشتراكية استمراراً بقذف وشتم أهم الأسس التي قامت عليها نهضة سورية وتفجيراً للموقف بالدعوة إلى سياسات الأمر الواقع الليبرالي، الذي لا يتناسب مع الخصوصية السورية الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والجغرافية, ومهما حاولنا وضع الحلول للمشاكل الجديدة الناشئة لا يمكن أن يكون الحل إلا عن طريق السياسات التي تحقق العدالة الاجتماعية والتي تعطي المنعة الاقتصادية بعيداً عن القوالب الجاهزة، وانطلاقاً من الإطار النظري المتمثل باقتصاد السوق الاجتماعي.
* عضو جمعية العلوم الاقتصادية