كيف نرشد سياسة الإعمار؟!
د. نزار عبد الله د. نزار عبد الله

كيف نرشد سياسة الإعمار؟!

من الطبيعي أن تلجأ الدول إلى ترشيد سياسة الإعمار وتقنينها بهدف الحفاظ على الأراضي الصالحة للزراعة، وذلك من خلال منع إحلال الكتل الإسمنتية مكانها، ومن الضروري توجيه هذا الإعمار بالشكل المناسب.. في سورية صدر العديد من المراسيم والقرارات في هذا الشأن، وتحديد المناطق الصالحة للعمران، حدث الكثير من الاختراقات والخلل والضعف، فكيف يمكن أن نرشد سياسات الإعمار إذاً؟! وما هي الطرق الأكثر جدوى في هذا المجال؟!

قانون للتعدي على الأراضي الزراعية

ينص قانون التطوير والاستثمار العقاري رقم (15) لعام 2008، والتعليمات التنفيذية الصادرة عن رئيس مجلس الوزراء رقم (5410) لعام 2009 على تحديد مناطق التطوير العقاري ضمن أطر محددة، فمثلا تشترط المادة 10 من قانون الاستثمار  والتطوير العقاري عند تحديد مناطق التطوير العقاري، والموافقة على إحداثها ما يلي:

1- أن تكون خارج مناطق المنع والمحرمات (مناطق عسكرية، مطارات، موانئ، ينابيع، غابات، أراض مشجرة، آثار،طرقات، مجاري سيل، المناجم، المقالع، آبار النفط، خطوط التوتر العالي).

2- أن تكون خارج المناطق ذات الصفة السياحية المعتمدة من قبل المجلس الأعلى للسياحة.

3- ألا تقل مساحتها عن المساحة المحددة بالتعليمات التنفيذية لهذا القانون.

كما تنص الفقرة (ج) من هذه المادة أنه يجوز بقرار من رئيس مجلس الوزراء بناء على اقتراح الوزير، وطلب تتقدم به الوزارة المختصة، ويوافق عليه المجلس اعتبار مناطق محددة للنشاط الصناعي، أو السياحي، أو أي نشاط تنموي آخر داخل أو خارج مناطق التنظيم مناطق تطوير عقاري بما في ذلك تحديد تصنيفها، وتخضع لأحكام هذا القانون، وتستفيد من ميزاته.

يعطي هذا القانون الغطاء القانوني للتعدي على الأراضي الزراعية عندما لا ينص صراحة على  وجود نص صريح في مناطق المنع والمحرمات يقول بمنع التطوير العقاري على الأراضي الزراعية، ويكتفي بذكر أراض مشجرة فقط! علماً أن مساحة الأراضي المشجرة قد بلغت قرابة مليون هكتار من أصل 6 مليون هكتار.

هذه الفقرة ترفع الغطاء القانوني عن حماية الأراضي المشجر ة، وبالتالي تصبح جميع الأراضي الزراعية مشجرة وغير مشجرة مستباحة للتطوير العقاري، بتعبير آخر، سيتراجع الأمن الغذائي عاما بعد عام، والأمن القومي أيضاً، فهل يجوز هذا ومصلحة من يخدم؟! علماً أن قرابة خمس مساحة القطر غير صالحة للزراعة، وأكثر من 44% من مساحة القطر مراع.

فوفقاً لإحصائيات المكتب المركزي للعام 2008، نجد أن استخدام الأراضي في سورية عام 2007، هو على الشكل التالي: أراض قابلة للزراعة 6،038 مليون هكتار، أراض غير قابلة للزراعة 3،69 مليون هكتار، أبنية ومرافق 0،86 مليون هكتار، مستنقعات وبحيرات 0،155 مليون هكتار، أراض صخرية ورملية 2،855 مليون هكتار، مروج ومراع 8،214 مليون هكتار، حراج 0،576 مليون هكتار، مقارنة بمجموع المساحة البالغة مليون هكتار 18،518.

العمران يجتاح أخصب المناطق

التوسع العمراني يكاد يكون حصراً على أخصب الأراضي الزراعية، كغوطة دمشق، وكان آخرها منطقة كفرسوسة، حيث تم تشييد أحدث حي في مدينة دمشق تتصدره رئاسة مجلس الوزراء، والعديد من الوزارات! وكذلك سهل الغاب الذي أنفقت على تجفيفه مبالغ كبيرة، والشريط الساحلي الضيق في محافظتي اللاذقية وطرطوس بطول 183 كم، والذي يعتبر من أخصب الأراضي، والهطول المطري من أعلى المعدلات، وكذلك سهول رنكوس العليا (سهول نجاصة)، ومساحات شاسعة على ضفاف نهر الفرات، والعاصي، ومنطقة يعفور والصبورة، وغيرها الكثير!

ألسنا بذلك نطرد الفلاحين من الأرض إلى المدينة إلى جيش العاطلين عن العمل؟ حيث يعاني المجتمع من بطالة بنيوية تطال أكثر من 50% من القادرين على العمل، ولا يجدون سكنا إلا في السكن العشوائي؟ لقد نجم عن ذلك الجفاف في المناطق الشرقية، وتقاعس المجلس الأعلى للزراعة عن مساعدتهم أدى لنزوح مئات آلاف الفلاحين لضواحي المدن في دمشق وحلب وحمص، فكيف إذا أخرجت أراضيهم من الزراعة نهائياً، وتم تحويلها إلى أماكن للتطوير العقاري؟! لن يتطور الاقتصاد قبل تطوير القطاع الزراعي! وجميع الدول تدعم قطاعها الزراعي بينما نصحره نحن بقسوة، بدلاً من رصد مبالغ كبيرة لتطويره، ورفع إيرادات الفلاحين، وإنصافهم سعرياً من جور التجار.

ذكر محافظ دير الزور المهندس حسين عرنوس عن وجود دراسة أعدتها مديرية الزراعة بدير الزور إلى أن نسبة 1% من إجمالي المساحات المزروعة على نهر الفرات تخرج سنوياً بسبب إقامة السكن، (جريدة تشرين تاريخ 24/6/2010 صفحة 6)، والوضع في باقي المحافظات لا يختلف كثيراً حتى المدن الصناعية الثلاث في كل من عدرا، وشيخ نجار في حلب، وحسياء جنوب حمص، حيث أقيمت هذه المدن الصناعية على أراض صالحة للزراعة!

الحراج في دائرة الخطر

الحراج أيضاً دخلت دائرة الخطر، حيث تراجعت من قرابة 30% من مساحة القطر قبل قرن ونيف إلى نحو 2،4 % فقط الآن! وهي غير محمية من التعدي، فلماذا؟ ذكر طلال الكفيري (جريدة تشرين تاريخ 7 حزيران 2010 صفحة 9) – الطريق الدولي والمخطط التنظيمي لمدينة السويداء في مهب الاعتراضات- أن القطع يطول المناطق الحراجية والمحميات الطبيعية أيضا، ناهيك عن مشاريع العمران في ما سمي «حدائق يعفور المعلقة».. وكما ذكرت جريدة الوطن بتاريخ 20 تشرين أول 2010 عن مشروع بكلفة  مليار دولار – الفطيم الإماراتية تطلق سبعة فنادق سياحية، وقد صدق وزير السياحة البرنامج التنفيذي لمشروع فطيم الإماراتية السياحي في منطقة يعفور بريف دمشق، ويمتد المشروع على مساحة أكثر من مليون م2 ضمن محور أوتوستراد دمشق -بيروت، المشروع عبارة عن مجمع سياحي يضم سبعة فنادق من مستويات مختلفة، وشققاً سياحية، ووحدات للاصطياف، وصالات عرض، وحدائق، وعددا من المطاعم المتنوعة، ومنشآت الترفيه والتسلية، إضافة لمجمع سينمائي يضم 16 صالة سينما الخ.

لا يزال قانون الاستثمار العقاري ينطلق من مناطق التطوير العقاري هنا وهناك بين 25 هكتاراً وأقل من 15 هكتاراً، ويكاد يكون حصرا حول المدن القائمة وتوسعا لها، مع العلم أن أكثر من مدينة مثل دمشق وحلب وحمص... قد تجاوزت الحجم الأمثل للمدينة..

لنبنِ مدناً متكاملة؟!

إن بناء المحاضر السكنية قد عفا عليه الزمن منذ عقود في الدول المتطورة عمرانيا يقضي الرشاد الاقتصادي بناء مدن كاملة مع كل مرافقها من مدارس، ومشافي، وجامعات، ومعاهد الخ، على أن تتوزع هذه المدن على كامل مساحة القطر، وحصرا تشاد على أراض غير صالحة للزراعة، بقصد خلق توزع عمراني جديد يصحح التوزع العمراني القائم، لأن العمران بدأ منذ القدم على الأراضي  الزراعية وقريبا من مناهل المياه، والأنهار، كالفرات، والعاصي، والخابور، والنيل الخ، ينبغي حفاظا على الموارد الطبيعية من أراض صالحة للزراعة، وغابات، ومراع تشييد المدن الجديدة على أراضي رملية أو صخرية لا تصلح للزراعة، وحصرا على أراضي أملاك الدولة، وتوزيع هذه المدن حفاظا على الأمن القومي العربي على كامل مساحة الوطن، هنالك مساحات شاسعة واسعة لا يقطنها أحد تنوف على ثلثي مساحة القطر العربي السورية، وأكثر من 90% من مساحة جمهورية مصر العربية، ينطبق ذلك على شتى الأقطار العربية.

كم مدينة جديدة نحتاج؟

ينبغي التخطيط  لتوفير فرص العمل سواء في المدينة السكنية في اقتصاد المعرفة والتجارة وغيرها أو في المدينة الصناعية، وفي الوقت ذاته توفير المسكن في المدن السكنية يقتضي الرشاد الاقتصادي تعديل هذا القانون بحيث يحافظ على الأراضي الزراعية، والغابات، وعلى فرص العمل فيها للأجيال القادمة، وينتظر أن تصل الزيادة السكانية في الخطة الخمسية الحادية عشرة إلى أكثر من 2،5 مليون نسمة، فكم مدينة جديدة نحتاج لإسكان هذه الزيادات؟ إذا انطلقنا مثلا من أن الحجم الأمثل للمدينة في القطر هو 100 ألف نسمة، فسنحتاج إلى 25 مدينة سكنية جديدة في كل خطة خمسية! فلماذا لا نشيد مدناً جديدة يتم اختيار مواقعها على محاور النقل الداخلية مثل دمشق – تدمر- دير الزور-الحسكه ودمشق – التنف وحلب – تدمر – التنف مثلا، وعلى بعد 40 كم من حوض نهر الفرات شرقاً وغرباً حفاظا على الأراضي الزراعية قرب حوض النهر، فلنشيّد عشرات المدن السكنية الجديدة، وعلى بعد 10 كم من كل مدينة سكنية نشيد مدينة صناعية جديدة، وبذلك نكون قد خططنا للسكن والعمل في آن واحد، وصنعنا توزعاً عمرانياً رشيداً على كامل مساحة القطر، وحافظنا على مواردنا الزراعية خاصة، والطبيعية عامة.