خوض الحرب الوطنية اقتصادياً أعداء عابرون «للاصطفافات السياسية»
تختلف التوصيفات للأزمة السورية، إلا أنها دخلت بما لا يقبل الشك مرحلة حرب وطنية يخوضها السوريون لحماية بلدهم، والمميز الأهم فيها أن عدو السوريين اليوم قد لا يكون موصّفاً وواضحاً بالدقة نفسها لدى كل السوريين في واحدة من أكثر الأزمات السياسية تعقيداً، ..
عدو السوريين الذي يظهر في كل «الجبهات المتحاربة» هو كل من يساهم في دفع الأمور نحو مزيد من التدهور بما ينطلق من مصالحه الذاتية، ويبتعد عن المصالح العامة التي تتطابق فيها مصلحة سورية كبلد مع مصلحة شعبها بالتأكيد..
يختار أعداء هذه المرحلة من الحياة السورية الجبهة الاقتصادية كجبهة رئيسية بعد أن هيأت ظروف الحرب والعقوبات الاقتصادية مستوى من التأزم الاقتصادي تستطيع معه حركة مصالح أعداء السوريين المتواجدين في الداخل والخارج أن تحقق تحالفاً «للأعداء الاقتصاديين» يبدو متيناً وقد ظهرت تحالفات تتجاوز حدود الداخل والخارج والمؤيد والمعارض والمؤسسات وجهاز الدولة، لتدل على تحالفات تولد عابرة للمواقف السياسية ومنطلقة من المصالح الاقتصادية وهو ما سبب بشكل مباشر تصعيداً اقتصادياً كبيراً بدأ يمس محددات اقتصادية سيادية كقيمة الليرة السورية.. وبشكل غير مباشر أدى إلى تدهور في محددات اقتصادية اجتماعية هامة كنسبة الفقر، وفجوة الغذاء والأجور، ومستوى البطالة
مفهوم العدو الاقتصادي نستطيع أن نحدده بالجهة التي تمارس دوراً سلبياً يعيق البناء الاقتصادي بشكله الضروري والمطلوب الذي يحقق المصلحة العامة بما لا يقبل الفصل بين مصلحة المستضعفين والبلاد معاً..
وهذا إذا ما كان ينطبق على كل دولة من دول العالم النامي تحديداً في الظرف الاقتصادي الدولي الذي يعيق حالات البناء المستقلة، فإنه ينطبق على سورية كذلك قبل الأزمة وبعدها.. ما يدفعنا لتحديد الأعداء الاقتصاديين بعلاقتهم المباشرة مع تصعيد الأزمة الاقتصادية السورية اليوم وتحويلها إلى واجهة الحرب الأولى في الحرب الوطنية التي تعيشها سورية، وتلقائياً سينطبق هذا التحديد كثيراً مع الأطراف والقوى الاقتصادية التي ساهمت في تصعيد التوتر الاقتصادي والاجتماعي الذي قادت إليه عقود من الخلل في بناء الاقتصاد السوري، والتي دفعت نحو السير بالتحرير الاقتصادي بشكل فج خلق ثغرات كبرى في عملية النمو والتنمية..
حلفاء الأمس
حول الأسباب الاقتصادية للأزمة السياسية في سورية يجمع الجميع في «طرفي المحللين» الموالي والمعارض على عدم إمكانية تجاهل دور الاضطرابات الاجتماعية التي تسببت بها المرحلة الليبرالية الاقتصادية في سورية، وبينما يبتعد الطرفان عن إعطاء هذه السياسات والمسؤولين عنها حقها ومسؤوليتها فإن الأرقام والوقائع تقول عكس ذلك..
حيث بلغت نسبة الأسر التي يبلغ إنفاقها على الغذاء أقل من الحد الأدنى من السعرات الحرارية المطلوبة نسبة 17% تقريباً. وانتقلنا إلى نسبة 44% فقر بالحد الأعلى في عام 2010، ازدادات البطالة كنتيجة لتراجع نسبة التشغيل حيث توقف تقريباً نمو فرص التوظيف ليبلغ بالمتوسط 0,9% بين سنوات عقد 2001-2010، بينما لم تتطور الأجور الحقيقية بين 2005-2010، بينما كانت الصدمة الكبرى في الريف السوري الذي تراجعت مشاركة قوى العمل فيه من 58% عام 2002 إلى 42% عام 2010، وكانت نتائجه زيادة نسبة الأمية إلى 15%.
بينما كمؤشر أساسي بلغ توزيع الدخل الوطني بين الأرباح والأجور نسبة 25% للأجور، مقابل 75% للأرباح وذلك في عام 2009.
تحالف الكبار
نقتبس من دراسة لجمال باروت «العقد الأخير في تاريخ سورية جدلية الجمود والإصلاح» التالي:
«كشف نشاط الشركات القابضة، عن ارتفاع وتيرة تعولمها واندماجها في رؤوس الأموال الخليجية والأجنبية، من خلال صيغ التحالف الإستراتيجي. ويمكن القول، إن النخب القوية في القطاع الخاص السوري، والمؤسسة لهذه الشركات، قد دخلت دورات هذا التحالف بوساطة نخبتها القائدة الصاعدة في الشركات القابضة، التي تنفذ مشاريعها بالتحالف مع رؤوس الأموال تلك. ولا تخلو «دهاليز» هذا التحالف من أبعاد ريعية غير مرئية، بين الاستثمارات الخليجية والأجنبية والشركات القابضة، لكون هذه الأخيرة قد حصلت على الموافقة الحكومية لإقامة هذه المشاريع. فأقوياء الشركات القابضة، النافذون وسط البيروقراطية الحكومية الصانعة للسياسات والقرارات، وهم بمنزلة «بوابة» الاستثمارات المتدفقة، للاستثمار في سورية، وتسهيل تمرير مشاريعها، وضمان أرباح لها مرتفعة مسبقاً، وتخريج صيغ متعددة للتشارك في تبادل المصالح معها، تحت اسم التحالف».
يظهر من هذا الاقتباس الذي يعبر عن خلاصة التحالفات الاقتصادية السياسية في المرحلة الأخيرة قبل الأزمة السورية، بين قوى السوق من جهة والبيروقراطية الحكومية ورؤوس الأموال المستثمرة الخليجية منها والأجنبية، وتتوج هذا التحالف بالشركات القابضة التي كان من أبرزها: شركتا «الشام» و«سورية» القابضتان، حيث قدرت نشاط هذه التحالفات في الشركتين الرئيسيتين بـ60% من النشاط الاقتصادي السوري بالنسبة لشركة “شام”، وبمقدار مليار دولار أميركي للشركة الثانية “سورية” القابضة.
الليبرالية شعار التحالف
لم تصل هذه القوى إلى هذا المستوى من التشابك إلا بعد أن كانت صياغة النموذج الليبرالي السوري قد اقتربت من الاكتمال مشكلة نهجاً اقتصادياً يتيح فتح كل الأبواب التي كانت موصدة سابقاً وفتحت بالتدريج ضمن حملة التحرير الاقتصادي التي انتهت بالعناوين الرئيسية التالية:
الانفتاح والاعتماد على الاستثمارات الأجنبية وتقديم الإعفاءات.
تحرير التجارة الخارجية.
تحرير الأسعار.
تحرير السياسة النقدية وحركة الصرف وإنشاء مؤسسات الوساطة. المالية.
قانون الشركات الذي يسمح بإنشاء الشركات القابضة.
تعديل قوانين العمل.
الغرب الاقتصادي.. الأب الراعي
إذاً بعيداً عن المتحالفين المباشرين في مرحلة ما قبل الأزمة فإن الليبرالية الاقتصادية هي أداة رئيسية لهؤلاء في تحقيق مصالحهم الضيقة، وهي هدف أساسي لراعي الليبرالية الأول وهي المنظومة الغربية اقتصادياً أي دول «العالم الرأسمالي المتقدمة» والتي تعتمد الليبرالية الاقتصادية نموذجاً واجب التصدير لكونه مكوناً أساسياً يعتمد عليه بناء اقتصاداتها واستمرار نموها، وتستخدم لهذا الغرض أداتين رئيسيتين تم تحقيقهما في سورية خلال العقد الماضي:
1. برنامج ليبرالي واضح المعالم ومتكامل تقدمه من خلال المنظمات والمؤسسات الدولية وغيرها, وقد تمت هذه العملية مع اعتماد نهج اقتصاد السوق الاجتماعي في سورية بخطة حكومية خمسية هي العاشرة.
2. فريق من القوى الاقتصادية في الدولة المعنية، يتشكل غالباً بشكل تلقائي كنتيجة لتقاطع مصالح قوى محلية مع الليبرالية الغربية وهي بالتحديد قوى السوق الكبرى بتبايناتها، بالإضافة قوى محددة داخل جهاز الدولة موجودة في مفاصل القرار الاقتصادي وقادرة على التأثير فيه. حيث تحقق هذا الشرط في سورية أيضاً بوجود فريق أكاديمي وتنفيذي ليبرالي مترسخ بجهاز الدولة، ومدعوم بفريق القوى المرتبطة بالليبرالية الغربية وهي قوى الفساد التي ترغب بحلحلة جهاز الدولة بعد أن اقتربت من إتمام عملية الهيمنة على حصة هامة من قطاعات رئيسية وتوجب نقل الوزن الاقتصادي المنهوب نحو السوق، وقوى السوق التي تعتبر الليبرالية الاقتصادية بيئتها الطبيعية التي تستطيع من خلالها أن تنمو بشكل احتكاري غير مقيد، باتجاه مزيد من الهيمنة أيضاً.
يسمح التحرير الاقتصادي بجملة أمور أهمها تراجع دور الدولة وضمان دور الاستثمارات في التوجيه نحو القطاعات الريعية كمرحلة ضرورية لينتج «نمواً رقمياً سريعاً» يثبت النموذج مرسخاً هيمنة قوى السوق والفساد، وهو ما تم وكانت نتيجته انحراف سريع في عملية التنمية وأزمة اقتصادية كان المسبب الأساسي للأزمة السورية..