بين اقتصاد الحرب والسياسة النقدية
تكررت مقولة ضرورة إعلان اقتصاد الحرب في سورية وذلك على أثر أكثر المستحقات الاقتصادية حرارة اليوم وهي تراجع قيمة العملة الوطنية وأزمة الارتفاع المستمر والمتقلب لسعر الصرف.. الدعوة إلى الإجراءات الاستثنائية التي تلائم مستوى الأزمة الاقتصادية اليوم، ..
يأتي بعد أن أصبح من المتفق عليه أن مستوى قدرة جهاز الدولة على أخذ زمام المبادرة أدنى بكثير من الضرورة، بل وبمستوى معيق لولادة حلول وسياسات اقتصادية في مواجهة الحرب التي تشهدها سورية اليوم
الانتقال إلى الإجراءات الاستثنائية يتطلب معرفة المشكلة بجذورها الحقيقية أولاً وبمحدداتها الفرعية، ومستوى تأثير كل عامل من العوامل لمعرفة الحلول بمستوياتها المتعددة، لنقترب من فهم ما الذي يعنيه ضرورة الانتقال إلى اقتصاد حرب بمعنى السياسات النقدية.. كبداية.
في الأسباب الجذرية
على الرغم من كون ارتفاع سعر الصرف يؤدي إلى تراجع في قيمة العملة الوطنية، إلا أن قيمة العملة تحدد بمفهوم أوسع هو قدرتها الشرائية المتعلق بعوامل داخلية، بينما يعتبر سعر الصرف عاملاً يرتبط أكثر بالمحددات الخارجية وفي مقدمتها كتلة القطع الأجنبي الداخلة والخارجة من السوق السورية. لذلك سنطرح مسببات تراجع قيمة العملة المحلية، ومسببات ارتفاع سعر الصرف.
توازن الكتلتين والليرة بينهما
سعر الصرف كتعبير عن قيمة النقد الوطني بوظيفته التبادلية والادخارية في السوق المحلية، يتعلق بكتلتين رئيسيتين في الاقتصاد الوطني هما الكتلة السلعية (كم المنتجات السلعية المنتجة أو المتداولة محلياً)، مقابل الكتلة الثانية وهي الكتلة النقدية (كم النقد الموجود في التداول).. قيمة الوحدة النقدية أي الليرة تتحدد بالعلاقة بين هاتين الكتلتين فزيادة النقدية مقابل تراجع السلعية يؤدي حتماً إلى تراجع قيمة وحدة النقد أي الليرة..
وهو خلل قديم في الاقتصاد السوري يعود إلى غياب معادلة تحدد العلاقة بين الكتلتين والاعتماد على الضخ النقدي المفرط مقابل تراجع الإنتاج والكتلة السلعية أو عدم تزايدها بالنسبة نفسها، والذي أخذ اتجاهاً واضحاً مع اعتماد تمويل الحكومة بالعجز أي بالاستدانة من البنك المركزي كمنهج. حيث نمت الكتلة النقدية بمعدل 9,7% في عام 2006، وبمعدل 15,7% في عام 2008، وبمعدل 12,3% في عام 2010 قابلها نمو للكتلة السلعية : 5%، 4,4%، 3,4% في الأعوام ذاتها على التوالي.
خلل العلاقة مع الخارج
من جانب آخر فإن سعر الصرف كتعبير عن القيمة الخارجية لليرة السورية يرتبط بالعرض والطلب على القطع الأجنبي والذي يتأثر بتراجع إيرادات القطع الأجنبي من الصادرات أو التدفق الخارجي الاستثماري، أو معونات ومساعدات، الاتجاه العام في الاقتصاد السوري يدل على خلل في العلاقة مع الخارج يدل عليها اختلال ضمن ميزان المدفوعات حيث ازداد عجز الميزان التجاري ليبلغ نسبة 6,2% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2010 بينما كان التدفق الخارجي في الحساب الرأسمالي لميزان المدفوعات يغطي نسبياً العجز التجاري، الذي يعود إلى عدة مسببات وبشكل رئيسي علاقة التبادل التجاري مع الخارج المعبر عنها في الصادرات والواردات حيث تراجعت نسبة الصادرات إلى الواردات، واعتمدت تركيبة الصادرات على ثقل كبير للسلع النفطية حيث بلغت نسبة 46% من مجمل الصادرات في عام 2010.
بالتالي فإن استقرار سعر الصرف في تلك المرحلة يعود إلى تغطية ايرادات القطع الأجنبي لأثر الخلل بين الكتلة السلعية والنقديةـ فتوافد القطع الأجنبي خلال العقد السابق الناجم عن تراكم عائدات الصادرات النفطية مع ضعف الاستثمار الحكومي، بالإضافة إلى حركة جيدة نسبياً للاستثمار الأجنبي، مع زيادة الاستيراد.
إن كلاً من العاملين السابقين يمثل الجانب الموضوعي من انخفاض قيمة العملة المحلية (باختلال التوازن بين الكتلتين)، وارتفاع سعر الصرف للعملات الأخرى (باختلال عرض وطلب القطع الأجنبي وخلل ميزان المدفوعات) ويعبر عن خلل في البنية الاقتصادية السورية ككل، سواء من حيث الإنتاج: الاستثمار والنمو بعلاقته مع حجم الإنتاج وحجم الصادرات، ومن حيث القدرة على خلق توازن نقدي ومالي في العلاقة مع الخارج.
الأزمة والنشاط الطفيلي
تسبب الأزمة اليوم مضاعفة تأثير كل من العاملين حيث يتراجع الإنتاج المحلي بنسبة تفوق 70% بينما قدر تراجع الصادرات عام 2011 بنسبة 45%، لتصل إلى نسبة 75% في عام 2012، أما الصادرات النفطية فتراجعت لحد التوقف في العام الحالي. بالمقابل تزداد الأعباء المترتبة على استخدامات الاحتياطي الأجنبي وأعباء الاستيراد في مقدمتها..
إلا أن مستوى التخبط والخلل الذي يشوب سعر الصرف اليوم وقيمة العملة الوطنية كنتيجة لا يرتبط اليوم بالمحددات الموضوعية السابقة فقط، فعلى الرغم من كون الخلل البنيوي المذكور في الاقتصاد السوري هو الشرط الأولي الذي يسمح بتخبط سعر الصرف وقيمة العملة إذ يدفعها باتجاه التراجع، إلا أن الوتائر المتسارعة وغير المستقرة للتراجع في قيمة العملة وارتفاع سعر الصرف تعود إلى عامل ثانوي يزداد تأثيره بشكل كبير في ظروف الاضطراب والأزمات وهو دور عامل المضاربة والسوق غير النظامية..
التحرير النقدي بيئة حاضنة
ساعدت فوضى السوق وحالة عدم الاستقرار التي نتجت عن الازمة الاقتصادية على تنشيط كبير لدور السوق السوداء، او سوق الصرف غير النظامية في سورية التي لها دور وحصة هامة من السوق السورية تاريخياً.. حيث تساعد حالة التراجع غير المستقر على القيام بعمليات المضاربة التي تمتلك السوق السوداء أدواتها الهامة:
الرصيد الكافي والمتزايد من القطع الأجنبي كشرط أولي للقدرة على الحيازة بكميات كبيرة أي الاحتكار، والمساهمة في عرض القطع.
القدرة على تحويل القطع وإيداعه في المصارف وسحبه منها، بالإضافة إلى المتاجرة أي بيع الدولار وشرائه بلا وجود ضابط ورقابة جدية.
وجود واجهة شرعية في السوق الرسمية للقطع ممثلة بجزء هام من شركات ومكاتب الصرافة التي تعتمدها السلطات النقدية كمصب رئيسي للاحتياطي الأجنبي الذي تقوم ببيعه.
إن مجمل هذه الأدوات هو نتيجة لسياسات التحرير النقدي التي انتهجتها الخطة الخمسية العاشرة، والتي فصّلت في الخطة الخمسية الحادية عشرة بثلاثة إجراءات اعتبرت من أولويات السياسة النقدية في المرحلة الأولى (2011-2012-2013):
«الاستمرار بالتحرير التدريجي والمضبوط للحساب الرأسمالي من ميزان المدفوعات» وهو الإجراء الذي يسمح بحرية تحويل إيداعات القطع إلى الخارج تحت مسمى حرية حركة رؤوس الأموال، وهو ما ساهم في هروب جزء كبير من رؤوس الأموال إلى الخارج بلا قدرة على إيقافها.
«الاستمرار في تضمين كل عمليات القطع الأجنبي داخل السوق الرسمية وإدارتها بكفاءة وفاعلية» وهو ما دفع إلى استكمال ضمان حرية المتاجرة عن طريق شركات ومكاتب الصرافة التي أصبحت عماد التداول في السوق الرسمية للقطع.
«استكمال إلغاء ما تبقى من أنظمة الرقابة على النقد والعمل على إصدار دليل ينظم كل التعاملات بالقطع الأجنبي» وهو الإجراء الذي يجعل التعاملات بالقطع الأجنبي غير مقيدة ويسهل عمليات انتقال القطع من منافذ السوق الرسمية إلى السوق غير الشرعية، ويلغي ضبط كميات الحيازة الفردية، ما سمح بالتساهل مع عمليات التداول بالعملة الأجنبية أي بيع وشراء السلع والخدمات محلياً بالقطع الأجنبي..
كل من المتاجرة والحيازة والتداول للقطع الأجنبي تعتبر الشريانات التي تعتمد عليها عمليات المضاربة.. فالسوق السوداء تحتاج إلى عدم وجود ضابط قانوني لحيازة القطع، وإلى قدرة على بيعه وشرائه في السوق المحلية بشكل قانوني ليصل إليها، وتحتاج إلى إلغاء أنظمة الرقابة لتتم كل من العمليتين السابقتين.. وهو ما قدمته لها سياسة التحرير النقدي التي انتهجتها الخطة الخمسية الحادية عشرة وفق النهج الليبرالي واستمر العمل بها في ظروف أزمة اقتصادية تعصف «بأخطر بلدان العالم في عام 2013» سورية.