سياسات التحرير في المجال النقدي.. تعصف بالليرة!
قبيل انفجار الأزمة بساعات وتحديداً في 15 آذار 2011 ألقى عامر لطفي رئيس هيئة تخطيط الدولة في حينه بورقيات قليلة وفي إطار ندوة الثلاثاء الاقتصادي في جمعية العلوم الاقتصادية السورية
ندوة عرف بها الجمهور على المعالم العامة للخطة الخمسية الحادية عشرة الممتدة مابين عام 2012 وحتى عام 2017.
كان أهم ماجاء في الخطة أنها تهدف إلى توظيف 4000 مليار ليرة سورية من الأموال للاستثمار في شتى المجالات ونصف هذا المبلغ كان مؤمناً وفقاً لعامر لطفي والنصف الآخر أي 2000 مليار ليرة كان قيد الانتظار!.
علق أحد الحضور في القاعة حينها: إنكم ياسيادة الوزير تقامرون بنصف طموحات الشعب السوري حين ترهنون نصف قيمة خطة التنمية للظروف الدولية والإقليمية في الوقت الذي تجتاح المنطقة موجة من الحراكات والثورات التي تطالب بتغيير السياسات تجاه العدالة الاجتماعية، فمصر وتونس وليبيا كانت قد سبقتنا إلى ذلك..
الخطة التي وضعت قبل الأزمة السورية، لم تنقد أو يعاد النظر بها ما بعدها.. ليستمر العمل وفق منهج أقل ما يمكن أن نقول عنه أنه من ظرف آخر، او بلا منهج، وامتد هذا على كل جوانب السياسة الاقتصادية ومنها النقدية..
«الإصلاحات النقدية» في الخطة الخمسية الحادية عشرة..
هروب الأموال وهيمنة الصرافين
صيغت السياسة النقدية في الخطة الخمسية الحادية عشر على مبدأ إصلاح السياسات النقدية والتي كانت تعني تحرير كل من حسابي «رأس المال» و«الحساب الجاري» في ميزان المدفوعات، و«تنظيم دورة القطع الأجنبي»
تحرير حساب رأس المال: هروب الأموال
اعتمد المصرف المركزي السوري خلال الأزمة على السياسة النقدية المصاغة في فترة ماقبل الأزمة، ولم يستخدم إلا بعض أدواتها، وبهدف التحكم بالعرض النقدي في مواجهة التضخم استخدم بعضاً من أدوات السياسة الإئتمانية ومن أهمها تخفيض نسبة الاحتياطي الإلزامي للمصارف من 10% إلى 5% (وهي النسبة من رأس المال التي ينبغي على المصارف التجارية ايداعها في حسابات المصرف المركزي لمواجهة الاحتمالات الطارئة)
يبرر المركزي هذا الإجراء بضرورة مواجهة الطلب العالي على سحب الودائع درءاً لاحتمالات الإفلاس المصرفية التي قد تؤثر على الوضع الاقتصادي العام، لكن حقيقة الأمور أن هذا الإجراء وإن «حمى المصارف التجارية من احتمالات الإفلاس» عبر تأمين السيولة النقدية للمودعين، إلا أن المصارف السورية حينها كانت تعاني من السيولة الفائضة وقلة التوظيف، والأهم أن تخفيض الاحتياطي عملياً لم يخدم إلا فكرة (الاستمرار بالتحرير التدريجي والمضبوط للحساب الرأسمالي من ميزان المدفوعات) وهي البند الثالث من السياسات النقدية التي نصت عليها الخطة الخمسية الحادية عشرة للأعوام (2011-2012-2013).
حيث يساهم تخفيض الاحتياطي بزيادة السيولة لدى المصارف ليصار إلى تحويلها لاحقاً إلى الخارج دون أي ضغوطات تذكر على المصارف المحلية.
تحرير حركة الأموال
يمثل حساب رأس المال حركة الأموال الخارجة والداخلة إلى الاقتصاد الوطني على المدى الطويل والتي تتصف بالثبات النسبي بالأحوال العادية، الاستمرار بسياسة تحرير حساب رأس المال خلال الأزمة أسهمت بتهريب نصف الأموال المودعة في المصارف التجارية خلال العام الأول من الأزمة دون أي حسيب، فحتى نيسان 2012 خرج نحو 900 مليار ليرة سورية من المصارف السورية إلى الخارج وهي نصف حجم الودائع المقدرة قبل الأزمة بـ 1800 مليار ليرة سورية. أي أن الأداة المطبقة لم تخدم حماية المصارف من الإفلاس وإن بدا هذا الهدف الأولي، بل نفذت عملياً سياسة «تحرير سوق رأس المال» دون الأخذ بعين الاعتبار ظروف الأزمة، وهو ما يدفعنا اليوم للتساؤل ماذا حل بميزان المدفوعات و«حساب رأس المال» ضمنه بعد أكثر من عامين على بداية الأزمة، وفي مصلحة من تم ويتم الاستمرار بسياسة تحرير «الحساب الرأسمالي»؟
هل وعينا الدرس القبرصي الذي دفع الحكومة القبرصية بفرض قيود صارمة منعت حركة الرساميل إلى خارج قبرص، رغم العقيدة الليبرالية التي يتبناها النهج الأوروبي، وأين دروس التجربة الماليزية التي كان يتغنى بها فريقنا الاقتصادي السابق والتي علمتنا أن مهاتير محمد لم يستطع تخفيف حدة الأزمة في ماليزيا إلا بعد فرضه قيوداً على حركة الرساميل رافضاً الأيديولوجيا القائلة بضرورات التحرير!.
سياسة سعر الصرف
كانت سياسة سعر الصرف أولوية المصرف المركزي في الأزمة ودون تحديد هدف واضح لهذه السياسة، واعتمادا على مبدأ تحرير الحساب الجاري فقد عمل المصرف المركزي على تمويل مستوردات القطاع الخاص، وأثناء الأزمة بتحول تمويل المستوردات إلى عبء يتطلب المراجعة برر المصرف المركزي استمراره بهذه العملية يؤمن تخفيف أسعار المستوردات لحماية القوة الشرائية لليرة السورية من أثر ارتفاع سعر الصرف، بينما كانت هذه السياسة إحدى آليات تحويل القطع الأجنبي إلى السوق السوداء، بعد أن انحصرت تقريباً بشركات ومؤسسات الصرافة.
وانطلاقاً من الحفاظ على ثبات سعر الصرف فقد دخل المصرف المركزي كبائع أول للدولار في السوق النقدي عبر شركات الصرافة التي باتت حلقة وسيطة بينه وبين مشتري الدولار، عن طريق المزادات وعمليات الضخ التي تعقب كل ارتفاع لسعر الصرف.
«المركزي» ووسطاؤه
لقد عيب على سياسة أولوية سعر الصرف أنها تأخذ من بيع الدولار لشركات الصرافة أداة رئيسية لها، فرغم وجود مصارف تجارية ضخمة خاصة وعامة وإسلامية في سورية وهي ذات كفاءة أعلى من شركات الصرافة، إلا أن المركزي أصر على جعل بيع الدولار عبر شركات الصرافة جهة رئيسية في عرض الدولار، وهو مادفع هذه الشركات وغيرهم من تجار السوق السوداء ليكونوا عارضاً رئيسياً ومضارباً على الدولار، مما أفقد المركزي قدرته على التحكم بالسعر الرسمي للدولار وأعطي هامش مضاربة واسع للصرافين جعل من أزمة سعر الصرف تدور في حلقة مفرغة.
ولم يكن مفهوماً من المصرف المركزي أن يجعل أداته الرئيسة للتدخل في سعر الصرف هو بيع الدولار لشركات الصرافة، فمعظم الطلب على الدولار يأتي من التجار الذي يمولون بشكل مباشر من المصرف المركزي، كما بإمكانهم التمول من المصارف التجارية الأخرى، وهو ما أثار التساؤل حول ضرورة الحلقة الوسيطة (شركات الصرافة) ودورها في العمليات الاقتصادية، فهي بذلك تجني الأرباح فقط لحساباتها الخاصة خلافاً للادعاء القائل بأنها تنشط العمليات التجارية!!
وحقيقة الأمر أن سلوك المركزي هذا ماهو إلا تنفيذ للبند الأول من سياسات المصرف المركزي في الخطة الخمسية الـ11 للأعوام (2011-2012-2013) القائل بـ (الاستمرار في تضمين كل عمليات القطع الأجنبي داخل السوق الرسمية وإدارتها بكفاءة وفاعلية) التي جعلت المتاجرة بالدولار عملية متاحة للجميع من صرافين وغيرهم، دون مراجعة جدية لهذه السياسة في الأزمة..
وإن المبرر القائل بأن هذه التدخل في سوق الصرف هو حفاظ على "لقمة المواطن" والقوة الشرائية، ماهو إلا إخفاء للصراع الجاري حول استخدامات الاحتياطي بين مصالح كبار التجار والصرافين ومصالح بقية فئات الشعب، بل إن هذا الشكل من التدخل ما هو إلا تحرير للحساب الجاري يسمح بنقل الدولار من المصرف المركزي إلى جيوب الصرافين ولا يسهم بتثبيت سعر صرف الليرة إلا مؤقتاً بينما تتم خسارة كميات كبيرة من القطع الأجنبي دونما تعويض.. وهنا لايسعنا إلا التذكير بأواخر تسعينيات القرن الماضي في أزمة النمور الآسيوية حيث خسر المصرف المركزي التايلندي كامل احتياطياته البالغة 36 مليار دولار خلال ستة أسابيع عبر سياسيات التدخل للدفاع عن سعر الصرف وانهارت العملة التايلندية في نهاية المطاف..
مقاومة التغيير الضروري
كما أن الجديرذكره هنا أن التباطؤ من الحكومة وممانعة المصرف المركزي سن قوانين صارمة للتدخل في مسألة المضاربة على الليرة ماهي إلا نتيجة حتمية للسياسات السابقة حيث ينص البند الثاني من سياسات المصرف المركزي في الخطة الخمسية الـ11 للأعوام (2011-2012-2013) عشية الأزمة على مايلي:
(استكمال إلغاء ما تبقى من أنظمة الرقابة على النقد والعمل على إصدار دليل ينظم كافة التعاملات بالقطع الأجنبي)!!
مانريد التأكيد عليه اليوم أن ما لم يتم الحديث عنه عشية الأزمة هو السياسة النقدية المرافقة للخطة الخمسية الحادية عشرة، فالمشكلة الكبرى اليوم هي أن هذه السياسة التي صيغت على أساس هذه الخطة هي سياسة انفتاحية ليبرالية لم تستشعر حينها أية أزمة مقبلة أو كامنة، وهي اليوم تحكمنا وتعمق من أزمتنا الوطنية الشاملة وهذا ما يستدعي العودة إلى جذر المشكلة. فالخطة الحادية عشرة خطة اقتصادية خمسية متكاملة صيغت وفق منطق الانفتاح والاسترخاء وبصيغة شاملة، ناهيك عن كونها صيغت في ظل النظام السياسي القائم على الحزب الواحد الذي يضع الخطة الخمسية منفرداً، وهو مايستدعي اليوم إعادة النظر بكامل الخطة، والتي تم الحديث عن تعديل لها في وقت لاحق لم تنشر بنوده، لكن الواقع يثبت على الأقل أن السياسة النقدية تسير على النهج السابق ولابد من تغييرها مع تغيير كامل للخطة متوسطة وطويلة الأجل لإدارة الاقتصاد السوري في ظروف الأزمة.