من يقف على حافة الهاوية الآن؟
بعد أن سلكت الولايات المتحدة الأمريكية مع مختلف الملفات الدولية في الفترة السابقة نهج «الدفع نحو حافة الهاوية» عبر التصعيد السياسي والعسكري، ها هي تقف الآن على الحافة وحيدة، فمع استمرار هبوط البورصة الأمريكية، وتضاعف أعداد المصابين بفيروس كورونا المستجد إلى أكثر من 100 ألف، وعجز النظام الصحّي في البلاد، باتت واشنطن بموقع خطير.
إنّ الوباء الفيروسي الذي عمّ العالم، قد دفع الجميع إلى التصرف وفقاً لأولوياته القصوى، وبين حياة الناس وحياة الشركات التجارية والمصارف، انقسمت الدول الكبرى في سلوكها داخلياً وخارجياً، ففي حين أنّ الصين وروسيا ترسل المساعدات الإنسانية والمعدات والفرق الطبية، تستغل الولايات المتحدة الظرف الجاري بالحسابات السياسية والعقوبات الاقتصادية على مختلف دول العالم، إنّ هذا الوباء الفيروسي «الطارئ» والذي سينتهي عاجلاً أم آجلاً، قد فضح وضرب الولايات المتحدة الأمريكية والمنظومة الغربية عموماً بشكل «دائم» وعلى كافة المستويات من غير رجعة.
إنساني ما فوق سياسي
منذ أن ظهرت أولى الإصابات في الصين، ولاحقاً أولى الإصابات في إيران، استثمرت واشنطن الأزمة الناشئة في كلتا الدولتين إعلامياً واقتصادياً، طيلة ثلاثة أشهر، فتُبدي «التعاطف» مع المصابين وتقيم «النقد الإنساني والأخلاقي» على أداء حكومتي البلدين متهمةً إياهم بعدم المسؤولية والضعف وما شابه، للتحريض والتصعيد السياسي، بالإضافة إلى الدفع نحو انسحاب الشركات الاقتصادية من الصين بذريعة الوباء. مع بدء تفشي الوباء في إيطاليا، بدأت تنخفض النبرة الأمريكية تلك، ومع وصوله إلى أراضيها، تغيّر سَمتها تماماً: ليصبح الوباء لا يمكن السيطرة عليه، وتوقعات بإصابة الملايين، ويظهر فشل النظام الصحّي الأمريكي، ودون «تصيّد» من الصين.
بعد هذه الضربة الكبرى، بالفارق المهول بين النجاح الصيني والفشل الأمريكي، استمرت واشنطن بالبروباغندا ضمن حدود المحاولات الإعلامية البائسة، لتُسمي الوباء «فيروس ووهان»، فتأتي الردود الشعبية على هذا القول قبل التصريحات الصينية نفسها، متهمين الإدارة الأمريكية بالعنصرية، وفي اجتماع مجموعة العشرين، استنكرت الدول الأوروبية هذا الاسم تماماً.
بعد أن تجاوزت الولايات المتحدة الأمريكية عدد إصابات الصين، ونداءات حاكم ولاية نيويورك المتكررة والمتصاعدة بالاغاثة بسبب تفشي الفيروس فيها ونقص المعدات الطبية وعجز المنظومة الصحية، طرأ تغيّر جديد في السلوك الأمريكي إعلامياً وسياسياً: لتتراجع عن تسميته بـ«فيروس ووهان»، وتطلب التعاون والمساعدة من بكين. نشر ترامب تغريدة على تويتر عقب اتصاله مع الرئيس الصيني شي جين بينغ: «قد ناقشنا تفاصيل مهمة حول كورونا الذي يغزو كوكبنا ... لقد توصلت الصين إلى معرفة كبيرة وبات لديها فهم قوي ودراية كبيرة تجاه الفيروس.. نحن نعمل معا بشكل وثيق»، وأوضح الطرف الصيني في المقابل استعداد بلاده على مساعدة واشنطن.
أما بالنسبة للإيرانيين، فرغم مطالبة طهران وموسكو برفع العقوبات الاقتصادية المفروضة قسراً، للتّمكن من إدخال المعدات والفرق الطبية الضرورية لمواجهة الوباء، تسلك واشنطن سلوكاً مغايراً، فتفرض عدداً جديداً منها، دافعةً الشعب الإيراني الذي كانت «تحزن» عليه إعلامياً، نحو الهلاك، في محاولة لضرب النظام الإيراني وتطور البلاد الاقتصادي.
إن الوباء الفيروسي قضية إنسانية ما فوق سياسية، هذا ما توضحه بكين وموسكو وطهران وهافانا والخ بالأفعال والنتائج، بينما تؤكد واشنطن علانيةً بمتاجرتها واستغلالها في القضية الانسانية لصالح خططها ومطامعها السياسية والاقتصادية.
الجدار مع المكسيك... يحميه المكسيكيون!
من المفاصل الرئيسية التي واجهت إدارة ترامب منذ انتخابه رئيساً، وكانت نقطة مواجهات سياسية عدّة لسنوات، هي بناء جدار حدودي مع المكسيك لمنع عبور اللاجئين من الجنوب، وقد أدى الديمقراطيون والجمهوريون مسرحيات كبرى وطويلة حول هذا الأمر، وبخلافات حول مصدر تمويل هذا الجدار، لتنتهي بسحب حصة أولية من الخزينة الأمريكية وشرعوا ببنائه. الآن، يحمد ويشكر المكسيكيون هذا الجدار، بل ويتظاهرون ويطالبون بتقويته وتشديد نقاط المراقبة عليه لمنع المهاجرين الأمريكيين نحو أراضيهم!
فحتى اللحظة، لم يتجاوز عدد المصابين الألف في المكسيك، بينما أمريكا بها 123 ألف، وعلى إثر تزايد عدد المصابين في الولايات المتحدة، والأزمة الصحية، وارتفاع عدد العاطلين عن العمل إلى 3 ملايين، انقلبت موجة الهجرة من الشمال إلى الجنوب، وبسبب هذا الأمر، يخشى المكسيكيون توافد مصابين إلى بلادهم مما يعرضها لخطر الانتشار أكثر، ليتظاهروا مطالبين الحكومة المكسيكية بإغلاق الحدود وتعزيز القدرات الطبية لاجراء الفحوصات والحجر على المصابين.
إن الموقف بالنسبة للمكسيكيين هنا ليس رداً على السلوك الأمريكي، بل قضية صحية خالصة ومشروعة حرصاً على بلادهم وشعبهم، ولو أنّ لهم قدرات نظام صحيّ قادر على احتواء الجائحة، لربما قاموا بتكسير هذه الحدود عوضاً عن إغلاقها.
بين السقوط والسقوط
ربما، ما بعد الكورونا ليس كما قبله بالنسبة للنظام الأمريكي، فالأضرار السياسية التي غذّاها بعد تراجع البورصات، والتي نتجت عنه بالتوازي مع سابقتها ضمن السلوك والمواقف الأمريكية، قد خلخلت البناء الأمريكي كله وعرّت منظومة الوهم المحيطة به على مستوى السياسة والوعي الشعبي في الداخل والخارج.
فداخلياً، شكّل هذا الأمر، بفشل المنظومة الصحية وعجز الإدارة عن مواجهة الأزمة، صدمة كبيرة بالنسبة للشعب الأمريكي، وترافقت هذه الصدمة مع إجراءات أكثر قسوة بعدم دفع تعويضات غيابات العمل، بالإضافة لدعمها القطاعات التجارية والمالية للحد من انهيار البورصة عوضاً عن دعم المنظومة الصحية، وبالإضافة إلى ذلك، الارتفاع الهائل والسريع بعدد العاطلين العمل دون تعويضات.
وعلى المستوى الخارجي، دخل كل الغارقون بالوهم الأمريكي في صدمة أيضاً أمام هذا العجز، وأمام الوحشية المعلنة بالتعاطي مع الأزمة وتحديداً بالدول المفروضة عليها عقوبات اقتصادية، وصولاً إلى إصابة الجنود الأمريكيين أنفسهم في الداخل والخارج، تلك «القوّة الضاربة»، التي بعد كل تراجعها السابق، جاء الكورونا ليدفعها بعيداً نحو الحافة.
إنّ كل هذه التطورات السريعة والكبيرة قد صنعت ردود فعلٍ بحجمها أيضاً اتجاه الإدارة الأمريكية ومجمل نظام القائم، هذه الردود لا تزال في مرحلة كمون الآن باستمرار الوباء، ولكنها ستنفجر عند انتهائه، إن لم يكن في أثنائه.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 959