الصراع الفلسطيني وأزمة الكيان الصهيوني الأخيرة
تستمر التفاعلات السياسية حول إعلان ما سُمي بـ«صفقة القرن» التي أعلنها ترامب قبل شهرين، في الأوساط الفلسطينية والدولية، دافعةً إياهم نحو إيجاد حلّ لمعضلة الانقسام الفلسطيني عبر توحيد الصفّ، في الوقت الذي يجد فيه الكيان الصهيوني نفسه عالقاً بأزمة سياسية مستعصية حول «تشكيل الحكومة».
إنّ المفارقة السابقة لمجريات الصراع الفلسطيني ومستقبله تبيّن في خطوطها العامة طبيعة «صفقة القرن» باعتبارها تعبيراً عن أزمة أمريكية- صهيونية وبدأت توضح- بعد كل الدعاية والتطبيل والتزمير لأجلها خلال السنتين السابقتين- بأنها غير قادرة فعلياً عن انتشال الكيان من أزمته أو الحدّ منها، بل وأكثر من ذلك، تسبب الإعلان عنها بدفع جميع الأطراف الفلسطينية للتفكير حول كيفية توحيد صفهم في جبهة واحدة بوجه العدوّ، مما يضعف الأخير أكثر مما سبق.
واشنطن المهزومة
إنّ ترامب بإعلانه عن الصفقة، قد وقّع عملياً على ما يمكن اعتباره بدء مرحلة رفع يد واشنطن عن «إسرائيل»، تماشياً مع كل ما يجري في المنطقة وعلى المستوى الدولي من «انسحاب أمريكي» جاء فَرضاً عليها، إلَّا أنه وبذات الوقت يُخلي مواقعه تاركاً خلفه أكبر قدرٍ ممكنٍ من التوتير أملاً بالفوضى، وإن كان ذلك يهدد أداته الصهيونية نفسها.
فضاءات سياسية
ضمن مقولة الفضاء السياسي القديم والجديد، الذي يرتبط أساساً بتغير موازين القوى الدولية بتراجع واشنطن وانتهاء الأحادية الأمريكية مع كل ما يرتبط فيه، فبالنسبة للفلسطينيين أنفسهم، يمكن اعتبار أن مسألة توحيد الصفّ ضرورةً يفرضها الفضاء السياسي الجديد، حيث إن حالة الانقسام وُلِدت واستمرت في عهد الهيمنة الأمريكية، وستنتهي الآن بانتهاء الأخيرة... بالنسبة لموسكو، فإن الدفع بحلّ الصراع الفلسطيني وتأريض الفوضى، يتطلب وجود جهةٍ سياسية واحدة يتم الاستناد عليها لبدء العمل أولاً على تنفيذ القرارات الدولية فيما يخص المسألة، ومنها ما هو حلّ الدولتين وحق العودة وحدود 67.
التعاون الروسي- الفلسطيني
ضمن هذا التكتيك، تجري موسكو اجتماعات مع ممثلين عن مختلف الفصائل الفلسطينية، كان من آخرها لقاء وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، مع حسين شيخ، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح في الـ27 من الشهر الماضي، ومن إحدى المسائل التي أعلنت عنها الخارجية الروسية في بيان لها حول الاجتماع «تم التأكيد على أهمية الاستعادة السريعة للوحدة الوطنية الفلسطينية». وفي يوم الاثنين الماضي التقى لافروف برئيس حركة حماس، إسماعيل هنية، في موسكو، جرى خلاله بحث عدد من المسائل المتعلقة بالصراع الفلسطيني ومنها أيضاً «الوحدة الفلسطينية».
مقترحات أولية
في مقابلة له بعد الاجتماع، أعلن إسماعيل هنية أنه قدّم للجانب الروسي 4 مقترحات «للمصالحة الوطنية»، وهي حسب تعبيره: «1- الذهاب لانتخابات عامة رئاسية وتشريعية، ولاحقاً إلى مجلس وطني فلسطيني. 2- عقد المجلس الوطني الفلسطيني لمنظمة التحرير الفلسطينية خارج رام الله حتى يتسنى لجميع الفصائل الفلسطينية المشاركة في هذا الاجتماع. 3- عقد اجتماع للأمناء العامين للفصائل الفلسطينية. و4- تشكيل حكومة وحدة وطنية تتولى إدارة الشأن الفلسطيني في هذه المرحلة».
المسؤولية فلسطينية أولاً
دون الخوض في تفاصيل هذه المقترحات ومدى إمكانيتها أو توافقها مع متطلبات المرحلة، فإن ما يهمّ فيها هو طرح المسألة فعلياً وبدء النقاش حولها، تنفيذاً للضرورة التاريخية الملقاة على الفلسطينيين أنفسهم، ففي سؤال وُجّه لهنية حول موقف لافروف من هذا الطرح، نقل هنية عن لافروف قوله بأنّ «الوحدة ضرورة يُبنى عليها لاحقاً الموقف الإقليمي والدولي». إنّ هذا القول، فضلاً عن معناه العام، يبيّن بين حروفه الموقف الروسي بأنَّ البدء يكون من الفلسطينيين أنفسهم وهي مسؤولية الفلسطينيين أولاً؛ بمعنى أنّ الموقف الإقليمي والدولي لوحده في مواجهة واشنطن والكيان الصهيوني، بظروف الانقسام الفلسطيني الجاري، وبغير الوحدة، لا يمكن التعويل عليه بشيء، مما يدفع القوى الفلسطينية برفع مسؤوليتها، والدخول بمرحلة التكيّف مع الفضاء السياسي الجديد، أو زوالها عن مسرح التاريخ لظهور قوى جديدة فاعلة.
أزمة الكيان
في الطرف الآخر، يستمر الكيان الصهيوني بمعاناته في أزمة تشكيل الحكومة للمرة الرابعة، وهي أطول مرة في تاريخ الكيان، ورغم كل تصريحات ترامب ودعمه لنتنياهو بـ «إهدائهِ» الجولان والقدس وأخيراً «صفقة القرن» فضلاً عن باقي الدعاية الأمريكية من معسكر ترامب لصالحه، ورغم استثمار نتنياهو لها في حملاته السياسية الدعائية للانتخابات، إلَّا أنه لم يحصد أصواتاً انتخابية تمكن كتلته من تشكيل الحكومة، علماً أن هذه الديمقراطية المزيفة بـ«أصواتها الانتخابية» تعني في العمق أن توازنات القوى داخل الكيان لا تسمح لأي طرف باستلام دفّة القيادة، واستمرار الحال هكذا ينذر بتفجير تناقضات سياسية أكثر حدّة، تهدد الكيان نفسه لتضعه أمام مفترق طرق، إما أزمة اجتماعية تؤدي إلى حرب داخلية، أو الانتقال إلى شكلٍ أكثر مركزيةً وقمعاً في الحكم، تنفيذاً للضرورة التي لم تعد تحتمل رفاه «مسرحيات الديمقراطية».
أيضاً فضاءات سياسية
إنّ انتقال الكيان من شكل حكمٍ إلى غيرهِ، هو تعبير آخر عن فضاءات سياسية قديمة وجديدة، حيث إن الشكل القديم في الحكم، مع تموّت الأحادية الأمريكية وتراجع واشنطن عن الساحة الدولية لم يعد يتوافق مع التطورات والضرورات الجديدة الناشئة على المستوى الإقليمي والدولي، والتلويح بتنفيذ القرارات الدولية، بالإضافة إلى الحديث عن توحيد الصف الفلسطيني، ليصبح القمع ضرورة لا يمكن إخفاؤها، وهنا يبرز التناقض بين هذه الضرورة، وإمكانية تنفيذ هذا الأمر في الواقع بظروف المجتمع «الإسرائيلي».
برامج الحرب
إنَّ الذهاب للشكل الآخر في الحكم وعدم إمكانية استمرار «الهزل الديمقراطي الصهيوني» سوف يؤدي إلى تفعيل ردود فعلٍ اجتماعية داخل المجتمع «الإسرائيلي» نفسه، وتتحرك على إثره التناقضات الداخلية في هذا المجتمع، مما يسبب توترات تؤثر سلباً على قدرته في الحكم.
لكنَّ جميع القوى السياسية داخل الكيان مبنية أساساً على فكرة «برامج الحرب» ضمن خطط الاحتلال والتوسّع الصهيوني، وكانت المبارزة فيما بينها تقوم على هذه الأهداف، ولم يُعنَ أيّ منها بالقضايا والمسائل الاقتصادية الاجتماعية.
فنتنياهو وغانتس يتبارزان الآن حول قضايا تتعلق باستقرار «إسرائيل» وأمنها ككل، ويتّهم كلُّ واحدٍ منهم الآخر بأنه يقضي على «الديمقراطية» بممارساته في محاولات منع بعضهم من خوض الانتخابات. وهم باعتبارهم وجهين لعملة واحدة بالنسبة لنا، إلَّا أنهما داخل الكيان يمثل كلُّ واحدٍ منهما تياراً مختلفاً، شبيهاً بالانقسام الأمريكي وصدى له.
للمجتمع متطلباته أيضاً
لذا لا يمكن التغافل عن المجتمع الموجود بمتطلباته المعيشية والديمقراطية، حيث إن الأزمة الجارية داخلياً وخارجياً مع تطورها سوف تسبب ضغطاً أعلى عليه، وتسحب منه كل ما قدّم له في السابق من امتيازات «ورفاه» كانت تضمن للكيان الصهيوني استقراراً داخلياً بالحد الأدنى، ولعدم وجود أطراف سياسية تعبِّر عن هذه المتطلبات، فإن أزمة اجتماعية ستجري مع ما يصاحبها من توتر، أو تكثر وتتسارع موجات الهجرة من الداخل «الإسرائيلي» نحو الخارج.
إلى الدفن
في الختام: إن كل ما يحيط بكيان العدو، سواء داخلياً أو إقليمياً أو دولياً، بتفاعلاته وتطوراته يؤكد أنه في طريقه إلى الزوال، وما يسرّع أو يؤخر هذا الأمر هو بالدرجة الأولى مسؤولية الفلسطينيين والقوى الفلسطينية نفسها، فكلَّما كان إنجاز وحدة الصف أسرع كلَّما قَصر عمر الكيان، وفي العكس... وبالخطأ الملموسة، فإن حلّ الدولتين عبر القرارات الدولية سوف يكون أول وتد بنعش الكيان، وليس الأخير.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 956