لِمَ حراكات أمريكا اللاتينية عصيّة على واشنطن؟
يزن بوظو يزن بوظو

لِمَ حراكات أمريكا اللاتينية عصيّة على واشنطن؟

في مجرى صراع الشعوب الجاري مع المنظومة العالمية المتعفنة، بتصاعد الحراكات وتسارعها حول العالم، تقف أمريكا اللاتينية لِما تحمله من خصوصيّة تاريخية وبما تركته من إرثٍ، متفرّدة في مستوى تطور وقوة الحراكات الشعبية فيها اليوم، وعلى الرغم من طابعها العفوي... فماذا تحمل هذه الخصوصية، وما تأثيرها على الحراكات الجارية؟

تاريخٌ حيّ

عانت القارة اللاتينية استعماراً أوروبياً مُباشراً استمر لثلاثة قرون، قبل أن تبدأ ثورات الاستقلال فيها مع بدايات القرن الثامن عشر، والتي كان من أكبر رموز قادتها «سيمون بوليفار»، وصولاً إلى انتصار جميع دُولها في هذا الأمر. ليكون هذا الحدث الأساس الأوّل في الوعي الشعبي لكل سكان القارّة بدفعهم نحو التحرر على الدوام، ويتسلحوا به، وصولاً إلى ما سُمي بـ «التحالف البوليفاري» والذي أعلنه «هوغو تشافيز» عن فنزويلا وعددٍ من الدول الأُخرى ذات الحكومات «اليسارية» التي أبقته حياً. وبالتوازي مع التطور الاقتصادي- الاجتماعي في البلاد، وقامت في مرحلة ما بعد الاستقلال حكومات، وديكتاتوريات ناهبة وتابعة للحكومة الأمريكية، مما شكّل استياء شعبياً عاماً وأعاد إلى الأذهان فترة الاحتلال الأوروبي، لتنتفض البلاد مجدداً منتجةً قياديين ثوريين دخلوا في الذاكرة الشعبية أيضاً، مثل غيفارا وكاسترو، وقادة سياسيين كألليندي وتشافيز لما تحمله رموزهم من انتصارات وإنجازات بالطريق نحو التحرّر من الاستغلال الطبقي والأمريكي خصوصاً... لم تقف واشنطن بطبيعة الحال مكتوفة الأيدي في تلك المرحلة من «الحرب الباردة» لتقوم بصنع ودعم الانقلابات العسكرية والسياسية في عدد من الدول ذات الحكومات «اليسارية» في القارة، ومنها تشيلي، بعد أن اغتالت رئيسها سيلفادور ألليندي، خوفاً من مدٍّ اشتراكيّ متاخم لها وعلى حدودها... ليشكل هذا التاريخ بمختلف رموزه وانتصاراته أو هزائمه وآثاره إرثاً مادياً يُعبر عن نفسه اليوم بالحراكات الشعبية الجارية الآن، والتي تقول وضوحاً: طرد النيوليبرالية الأمريكية.

معاناة أمريكا وسطوتها

مع بدء تقهقهر «الإمبراطورية الأمريكية» وتراجعها دولياً منذ بدايات القرن الحالي وحتى الآن، تعاظمت حاجتها نحو الاستعاضة عن خسائرها برفع مستوى النَّهب على أقرب جيرانها، وما تُسميها بـ«حديقتها الخلفية»، فوفقاً لبيانات أحد أدواتها نفسها «صندوق النقد الدولي»، فقد ارتفعت نسبة الدَّين الحكومي إلى الناتج المحلي الإجمالي في 12 دولةً جنوبية مُرتبطة به، وبـ 6 سنوات فقط، من 48,1% عام 2013، إلى 78,1% في 2019، ليرافق ذلك صعود سياسات التقشف في هذه الدول وفرض المزيد من الضرائب ورفعها، فضلاً عن رفع أسعار المحروقات، أو أجور النقل، بالتوازي مع فتح السوق أكثر للاستثمارات الأجنبية والقطاعات الخاصة، وتزايد الهوّة بين الأجور وتكاليف المعيشة في هذه البلاد، وإفساد من لم يفسد بعد في هذه الحكومات. ومن جهة أخرى، عادت واشنطن إلى تنشيط وتزخيم سياسة الانقلابات العسكرية والسياسية اتجاه الدول المعادية لها، كما حاولت وفشلت في فنزويلا، ونجحت بها مؤخراً في بوليفيا بسبب مستوى الفساد العالي داخل مؤسسات الدولة، ورغبة واشنطن أيضاً بالسيطرة على رواسب «الليثيوم» وهو العنصر الذي يدخل في العديد من الصناعات التكنولوجية الحديثة، وتمتلك بوليفيا منه أكبر الرواسب في العالم، بنسبة 60% من مجمل الاحتياطات المعروفة.

ردّ الفعل

مع تزايد هذه الأفعال من قِبل واشنطن وحكوماتها التابعة في القارة، تزايد الضغط الاجتماعي وتراكم سنينَ قبل أن يُنتج ردّ الفعل الجاري في كُل من تشيلي والإكوادور وهايتي وبوليفيا والبرازيل ومؤخراً كولومبيا، عبر حراكات شعبية واسعة ومُتحدة مستفيدةً من إرثها التاريخي الحيّ ذاك، ليشكِّل درعاً بوجه كل محاولات الإعلام الغربي والمنظمات غير الحكومية المتغلغلة في البلاد بتفعيل تناقضات ثانوية أو ثنائيات وهمية تُدخل الشعوب في فوضى واحتراب فيما بينها، وسلاحاً ضارباً عبّر عن نفسه بالشعارات المستخدمة والتي تؤكِّد وحدة الشعوب، ومعاداة أمريكا، والسياسات النيوليبرالية التي تنتهجها حكوماتهم، مطالبين بذلك تغييراً حقيقياً في منظومات البلاد الاقتصادية والسياسية، ورافضين أيّ نهجٍ يدعو إلى «إصلاحات» شكلية.

تشيلي

تقف تشيلي من بين كل هذه الدول في القارة، ظاهرةً خاصةً في هذا الأمر، فعلى الرغم من الإطاحة بحكومة ألليندي بعد وجودها لثلاث سنوات فقط ومقتله في عام 1973، وما تلا ذلك من ديكتاتورية عسكرية تابعة لواشنطن حتى 1990، ثم فترة «تحرر وانفتاح اقتصادي» جرى التغنّي بها غربياً وترويجها على الدوام باعتبارها مثالاً ديمقراطياً واقتصادياً أمام باقي دول القارة، كانت حصتها هي الأكبر من نسبة المشاركين من السكّان في الحراكات الشعبية، وأكثرها تنبهاً، فضلاً عن إعادة إحيائها لرمزية ألليندي التي جرت محاولات تغييبها قسراً وهتافهم بالنشيد الوطني في فترة حُكمه والذي كان شعاره «الشعب المُتَّحِد لن ينهزم أبداً».

درجة التطور

على الرغم من كل هذه الإيجابيات في هذه الحراكات، وغِناها، وما فرضته على حكوماتها وما انتزعته منها، إلّا أنها لا تزال في طورها الأول كما تبين المؤشرات، أيّ: العفوي، فلم يظهر بعد بشكل جديّ وفي أيّ منها تيارات أو قوى سياسية مُنظمة تُعبّر عنها أو تمثلها بشكلٍ كافٍ، باستثناء الحالتين البوليفية لصالح موراليس، والبرازيلية لصالح لولا دي لا سيلفا، والتي فرضت على حكومتها مؤخراً إخلاء سبيله، لكن حتى هؤلاء مع من خلفهم من تيارات، غير كافين بممارساتهم الحالية بالنسبة لمتطلبات وضرورات الواقع الجديد لشعوبهم، والتي تطلب تغييراً جذرياً حقيقياً... وبناء على هذه المؤشرات، من غير المتوقع أن تجري الآن على إثر الحراكات الحالية تلك التغييرات المطلوبة، إلّا أنها وبالتأكيد ستحصل سريعاً فور انتقالها للطور الثاني: السياسي المنظم، والذي تقع مهمته على عاتق الثوريين الحقيقيين في كل بلد منها لتنتج عشراتٍ جدداً من ألليندي وغيفارا وكاسترو القرن الواحد والعشرين.

أخيراً: مُجرد إشارة صغيرة ملؤها «الشماتة»

من الملفت الإشارة هنا إلى أنه ورغم عفوية الحراكات هذه، ولمجرد تسلُّحها بإرثها وتجربتها، تفشل واشنطن والحكومات التابعة عن ردعها أو تحريفها، لتتصاعد اتهامات من قِبلهم على كلٍّ من كوبا وفنزويلا بوقوفهم خلف هذه الاحتجاجات وتعبئتها، وأين؟ في «الحديقة الخلفية»، هذه التُّهم التي عادةً ما تصدر عن باقي دول العالم على أمريكا نفسها... أيّ شللٍ هذا؟، فإن كان الاتهام كذباً، فهو يعبّر عن مدى الضعف الحاصل في «الإمبراطورية»، وإن فرضنا صحته، فيعبّر عن عجزٍ أمام «قوة وهيمنة» كوبا وفنزويلا على القارة... ماذا سيجري في الطور الثاني المُنظم إذاً؟

 

معلومات إضافية

العدد رقم:
945
آخر تعديل على الإثنين, 23 كانون1/ديسمبر 2019 13:47