العراق على مفترق طرق... نحو الاستقلال!
بالتزامن مع الفترة المزمع فيها انسحاب القوات الأمريكية من سورية، وبعد تتالي أحداث عدة في الشؤون العراقية، تتصاعد وتيرة المطالب الشعبية العراقية بخروج القوات الأمريكية من أراضيها أيضاً.
لم تغب عن الشارع العراقي يوماً المطالبة بخروج الأمريكيين من بلادهم وإيقاف التدخل في شؤونهم، إلّا أن مستوى الأزمة وتعقيداتها ما بعد حرب 2003 أنتج الكثير من التناقضات والمشاكل، التي لازال العراقيون يعملون على حلّها، بدءاً من إعادة بناء جهاز دولة متماسك ومستقل، وانتهاءً بإخراج جميع القوات الأجنبية، مروراً بإنشاء حكومة وطنية لا تحاصص فيها.
ولكن بين هذا وذاك من القضايا الواقفة كضرورات تُكمل بعضها أمام الشعب العراقي، بقيت جميعها عالقة وتدور بحلقة مفرغة في مثل هذه البنية السياسية السائدة ما بعد الاحتلال الأمريكي، بين حكومات وائتلافات وتيارات وأحزاب.. وإلخ، فلا يمكن للعراقيين إخراج القوات الأمريكية واستعادة سيادتهم دون بناء جهاز دولة يضمن تحقيق ذلك، عبر مؤسساته وعلى رأسها المؤسسة العسكرية، ولا يمكن لهذا الجهاز أن يُبنى طالما هنالك يدٌ أمريكية تحول دونه، حلقة بقيت تدور طيلة الخمس عشرة سنة الماضية، وصولاً إلى هذه النقطة والفرصة بالمعنى التاريخي، حيث تتغير موازين القوى الدولية، وتتراجع الولايات المتحدة المأزومة، ليصبح كسر هذه الحلقة أمراً واقعاً.
التهديدات ليست جديدة
مع توسّع وانتشار التنظيمات الإرهابية، وعلى رأسها «داعش»، في السنوات الماضية، وتحديداً عام 2014 حينما كانت هذه التنظيمات على مشارف بغداد، اتخذت واشنطن من تحركات أدواتها هذه ذريعة لتعزيز وجودها العسكري في العراق، بإرسال قوات بالآلاف، وإنشاء قواعد جديدة بغية إنعاش الأزمة أكثر، ومحاولة لفرض نفسها جغرافياً في مواجهة مع القوى الجديدة الصاعدة حينها وعلى رأسها روسيا، لتحول الأمور دون ذلك بعد فترة قصيرة، حينما أعلنت الأخيرة إطلاق عملياتها العسكرية للقضاء على التنظيمات الإرهابية في سورية من جهة، ومن جهة ثانية: كان لذلك الفعل الأمريكي رغم كل أجندته الإعلامية بشعارات إنقاذ العراق وسورية، ردَّ فعل شعبي رافض لهم جملةً وتفصيلاً، رغم كل محاولات التشويش من قبل القوى السياسية العراقية المخترقة والمدارة أمريكياً، ليصبح وجودها هناك ومنذ ذلك الحين عُرضة للتهديدات المباشرة الممكنة التنفيذ.
محاولة للطرد بالتي هي أحسن
اليوم، وبعد أن أصبح التوازن الدولي الجديد يفرض نفسه، ولا يمكن لنعّامة أن تنكره، بدأت تأثيراته تطال جميع البلدان، مرفقاً بالحقيقة الأخرى: تراجع واشنطن سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، لتتضح شيئاً فشيئاً أمام الشعوب الفرصة لردع عدوّ طال زمن عجرفته، ومن الأَوْلى بذلك من شعوب عانت من حروب واحتلال مباشر من قبله، ولفهم هذه التغيّرات واقتناص هذه الفرص للمواجهة؟ فمؤخراً وبعد الزيارة الوقحة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب لقاعدة «عين الأسد» في العراق، تصاعدت حركات شعبية عراقية جديدة أقوى من سابقاتها، مطالبة واشنطن بالانسحاب من أرضها على غرار سورية، ومطالبة الحكومة العراقية الحالية باتخاذ موقف رسمي من ذلك، يبدأ أولاً: بإنهاء الاتفاقيات الأمنية بين بغداد وواشنطن، وصولاً لإخراج قواتها سواء بالطلب أو المواجهة، ليدور الحديث اليوم عن طرح مشروع قرار رسمي للبرلمان العراقي حول هذا الأمر.
ثنائية «إما و أو» حول إيران وأمريكا لا تعني الشعب العراقي
إن هذه التحركات والمطالب الشعبية العراقية اتجاه طرد الاحتلال الأمريكي موجودة وتتصاعد، بصرف النظر عن الكتل السياسية والنيابية التي تعبر عنها، وفقاً لرؤيتها ومصالحها بتركيبها الخاص، فهنالك من اتخذ موقفاً جِدّياً مشابهاً اتجاه الوجود الأمريكي رداً على تصريح ترامب أثناء زيارته لقاعدة «عين الأسد» بزيادة تواجد بلاده العسكري واستمراره بغية مراقبة إيران وتحركاتها، ليطغى هذا الأمر وحده على جميع المنابر الإعلامية ويشوّه الموقف الشعبي الوطني، مستبدلاً إياه بمواقف متخذة بناء على مصالح سياسية تعني أطرافاً بعينها، وتتصادم لأجلها، ضمن نظام المحاصصة السائد فيما يخصّ ثنائية: التدخل الإيراني أو الاحتلال الأمريكي والمفاضلة فيما بينهم!... بالتأكيد أنه من ناحية: لا يمكن بالمعنى السياسي- نعني قراءةً وتحليلاً- المساواة بين طهران وواشنطن من حيث البنية والمصالح والإستراتيجية لكل منهما، ومن ناحية أخرى: إن هذه الثنائية بهذا المعنى من المفاضلة لا تعني الشعب العراقي ولا موقفه الوطني بشيء، فبهذا الأمر لا يختلف اثنان على الموقف الوطني باستعادة السيادة، وإخراج جميع القوات، واستقلال البلاد، ولا حاجة لتوضيحٍ أكثر من هذا.
واشنطن تدرك حجم الجحيم القابعة فيه
لا بدَّ من القول: إن واشنطن وعبر حركتها الاستفزازية الأخيرة بتلك الزيارة أدركت حجم الخطر المتنامي اتجاه قواتها في المنطقة، وإننا لنراهن على أنهم لم يدركوا هذه الحقيقة بحجمها الحقيقي لما بعد الزيارة، ولابد أنهم يعترفون بخطأ هذه الخطوة ضمنياً، فرغم أن حدوثها من عدمه لا يغير من الحقيقة شيئاً، إلا أن استفزازها ذاك ساعد على إذكاء نارها أكثر، وبربط هذه التهديدات على قواتها مع المجرى العام بالمعنى الدولي، بتراجعهم وهزائمهم المتتالية، وإعلان انسحابهم من سورية وأفغانستان، فلا حلّ أمام الأمريكيين إلّا بسحب قواتهم من العراق أيضاً، وهو ما سوف يحدث قريباً، أو سيصبح الخطأ والهزيمة موضوعين تحت أُسٍّ من عشرة، بعمليات عسكريّة تشنّ ضدهم، مرفقة مع تحركات وطنية وسياسية شعبية جدّية لا يمكن التشويش عليها بعد الآن.
الحلقة تُكسر والطريق بات واضحاً
أخيراً، وبالعودة لموضوع الأزمة العراقية بحلقتها تلك، فإنها اليوم على مفترق طرق، حيث تميل الكفّة بكسر هذه الحلقة باتجاه التركيز على إخراج الأمريكي وقطع يده أولاً، المهمة التي كانت الأصعب طيلة السنوات الماضية، وأضحت الأسهل اليوم بأيّ شكل كانت، ليتمكن العراقيون بعدها من حلّ بقية المشاكل تباعاً، بدءاً، عبر إسراع تماوت هذه القوى المبنية والقائمة على الشكل التحاصصي، والمخترقة من هذا الطرف أو ذاك، واستبدال الساحة السياسية المستولى عليها من قبلهم، بقوى سياسية جديدة تتوافق مع مصلحة الشعب العراقي وطنياً ومعيشياً وسياسياً، وصولاً للاستقلال واستعادة السيادة كاملةً... تلك الفرصة ذاتها التي تقف أمام جميع شعوب المنطقة باختلاف شكلها وأدوات التقاطها والعمل بها من بلدٍ لآخر.