عن خاشقجي والتطبيع الخليجي: «لا يصلح العطار ما أفسده الدهر»!
مما لاشك فيه أن مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في اسطنبول، يحمل الكثير من التجاوزات الأخلاقية والإنسانية، إلّا أنه ليس بالأمر الجديد والمستبعد عن سلوك أجهزة الاستخبارات العالمية، سواء أكانت ما شابهت السعودية منها، أو ما كانت محسوبة على دول «ديمقراطية» غربية، إذاً لماذا ضجّت الدنيا بهذا الحدث؟
من المؤكد، أن وجود وسائل التواصل الاجتماعي، وما أتاحته من ارتفاع في مستوى التواصل العالمي، يجعل من هكذا حدث اليوم يبدو وكأنه فضيحة من العيار الثقيل، لكن العامل الأهم الذي يجعل من قضية خاشقجي على هذا المستوى من الأهمية هو التوقيت، أي حدوثها في ظل تغيرات كبرى تجري على صعيد العلاقات والتوازنات الدولية، مما يجعلها في موضع استخدامات متعددة، وذريعة للضغط والابتزاز السياسي والمالي، وخاصة أنها تتعلق بالمملكة السعودية، الدولة ذات الأهمية والوزن العالي في المنطقة، شئنا أم أبينا.
الاستغلال السياسي والمالي للقضية
لا تختلف عملية قتل خاشقجي عن الحرب السعودية على اليمن، بل إن الأخيرة أكثر وطأة، كونها تستهدف شعباً بأكمله، وتتسبب بأكبر كارثة إنسانية في التاريخ الحديث، لذلك لا يتوهمنَّ أحدٌ بأن الضمير الغربي موجوعٌ اليوم على مقتل صحفي «معارض»، بل إن أجهزة الاستخبارات الغربية ذاتها متورطة بما هو أفظع من موضوع خاشقجي، لذلك من الواضح أن الدول الغربية تستخدم هذه القضية اليوم لأجندات معينة، مثلما تفعل تركيا أيضاً. كما أن تداعيات القضية تبدو أنها أتاحت الفرصة لأطراف عديدة لاستخدامها في سبيل تحقيق مصالح معينة، وتثبيت واقع جديد، وينطبق هذا الأمر على الداخل الأمريكي، كما على العائلة السعودية الحاكمة، كذلك الأمر بالنسبة للدول الخليجية والأوروبية.
إن التحالف الأمريكي- السعودي المديد، يجعل من قضية خاشقجي أداة ضغط متعددة الأبعاد، أي أن استخدامها يتيح تصفية حسابات مع السعودي من جهة ومع الأمريكي من جهة أخرى.
تداعيات خاشقجي على واشنطن
كما بدا من خطاب أردوغان نيته المماطلة في حسم هذا الملف، وكأن مقتل خاشقجي في اسطنبول جاءه على طبق من فضة، لحصار السعودية وتصفية حساباته مع واشنطن في ظل تنامي الخلافات بينهما، شكّل الحدث مادة دسمة أيضاً لقناة «الجزيرة» القطرية التي استغلته حتى الرمق الأخير استكمالاً لهجومها المستمر على الرياض في سياق الخلاف بين البلدين.
أما الدول الأوروبية فقد كان الحدث فرصة للضغط على ترامب وإدانته من بوابة تحالفه مع النظام السعودي، رداً على ابتزازاته المستمرة، بينما الموقف الأوروبي الفعلي من النظام السعودي لم يخرج حتى الآن عن إطار الشجب والإدانة، فبينما دعت كلٌّ من ألمانيا والنمسا إلى وقف مبيعات الأسلحة الأوروبية للسعودية إلى حين اتضاح ملابسات مقتل خاشقجي، اعتبر ماكرون هذه الدعوات «ديماغوجية بحتة»، إذ لا يمكن إنكار أن المال السعودي يفعل فعله في هذه القضية مما يجعل البعض يتخبط في إعطاء موقف إدانة واضح.
وهو ما عبر عنه الجانب الأمريكي صراحةً عندما قال ترامب: إنه لا يريد أن «يخسر كل هذه الاستثمارات التي تم ضخها في بلادنا». ومع اقتراب موعد الانتخابات النصفية للكونغرس تصبح هذه الورقة فعالة في سياق توظيفها في الانقسام الجاري في الإدارة الأمريكية وكاشفاً له، ففي الوقت الذي يرفض فيه ترامب وقف الاستثمارات السعودية، يدعو رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس «الشيوخ»، بوب كوركر، إلى فرض عقوبات على الرياض على أعلى مستويات الحكومة، ويدعو أعضاء آخرون إلى تفعيل قانون «ماغنيتسكي» للدفع بهذا الاتجاه.
استجداء الأمريكي
من بوابة الكيان: هل ينفع؟
كما عبر ترامب صراحةً عن تمسكه بالسعودية طمعاً باستثماراتها، أعرب أيضاً، ولأول مرة في تصريح رسمي، أن السلطات السعودية ساعدت الولايات المتحدة في دعم الكيان الصهيوني. ورغم أن هذا التصريح ليس بالمفاجئ إلا أنه يتيح لنا تفسيراً لموجة التطبيع العلنية مع الكيان الصهيوني التي اجتاحت الخليج خلال الأيام القليلة الماضية، لتبدو وكأنها تأكيدٌ وتطويرٌ على النهج السعودي الذي عبر ترامب عن إعجابه به، ورشوة للأمريكي لطي صفحة خاشقجي والآثار المترتبة عليها باحتمالاتها الكثيرة، التي قد تتضمن أثماناً تتعلق بإيران أو بالنفط أو غيرها، وربما أسهلها بالنسبة للسعودية قد يكون باتجاه القضية الفلسطينية والعلاقة مع الكيان الصهيوني.
نتنياهو في عُمان، وزيرة الثقافة والرياضة في حكومة الاحتلال في الإمارات لتشجيع منتخبها للجودو، وفريق جمباز «إسرائيلي» في قطر، تعددت الأشكال والتطبيع واحد. موقف سياسي واحد اتخذته دولتان متخاصمتان «قطر والإمارات» ولكن استرضاء الأمريكي يجمعهما، أو ربما فإن الأمر مرتبط كما تشير إليه بعض التحليلات بنشوء تحالف يجمع كلّاً من السعودية وقطر، بعدما كشف وزير الخارجية السعودي عادل الجبير عن اجتماعات في بلاده مع قطر بالإضافة إلى باقي الدول الخليجية ومصر لوضع إطار عمل لمشروع «تحالف الشرق الأوسط الإستراتيجي» أو ما يُعرف بـ «الناتو العربي».
وفي كل الأحوال فإن استجداء الولايات المتحدة من خلال التطبيع مع الكيان الصهيوني لن ينفع السعودية وأعوانها في المنطقة، إذ أن العلاقة مع واشنطن أصبحت محكومة بالأزمة التي لا يمكن إصلاحها، وبانتهاء زمن القطب الواحد الذي لا يمكن العودة عنه، ما يعني أن سعي النظام السعودي للحفاظ على وجوده، وعلى ضمان دور محدد له في المنطقة، في ظل ما يعانيه من أزمات داخلية وخارجية، اعتماداً على إرضاء الكيان والولايات المتحدة لن يجدي نفعاً، طالما أن واشنطن بحد ذاتها تعاني من انقسامات وتراجع، وطالما أنها تتعامل مع كلٍ من حلفائها في المنطقة سواء أكان النظام السعودي أم الكيان الصهيوني بوصفهم أدوات لها أهداف محددة ومحدودة زمنياً ستنتهي مع أفول مشغلها.
قد يستطيع النظام السعودية والدول التابعة في المنطقة الحصول على بعضٍ من الدعم الأمريكي حالياً، لكنه سيكون محدوداً ومشروطاً، ولن يغني يوم اشتداد الأزمة، وهو اليوم الذي ليس بالبعيد، عندها لن تنفع هذه الأنظمة سوى شعوبها، التي خسرتها مسبقاً مع موجة التطبيع الحالية وغيرها من السياسات. هنالك فرصة واحدة اليوم للنجاة، وهي الخروج من عباءة الغرب بكل تعبيراته والتوجه شرقاً، وهو ما يدفع اليوم دولاً للالتفاف، لكن دولاً أخرى يبدو أنها عصية عن هكذا تغيير بحكم بنيتها، مما يعني أنها ستكون عرضة للغرق حكماً.