مشروع سيل «دموع واشنطن» 2
يزن بوظو يزن بوظو

مشروع سيل «دموع واشنطن» 2

مع تتالي الهزائم الأمريكية الاقتصادية والسياسية، تحاول واشنطن أن تستجدي حلفاءها بصيغة قوّة زائفة، لتعارض وتفرض عقوبات هنا وهناك. وللحليف الأوروبي، الذي لم يعد مطيعاً كما السابق، نصيبه من تلك العقوبات، وإن كان بشكل غير مباشر، وتحديداً ألمانيا المدافعة والمنخرطة في مشروع «السيل الشمالي 2» لنقل الغاز الروسي إلى أوروبا.

ليست مصادفة أنه وبعد الخلاف الأوروبي الأمريكي، غير المسبوق بمستوى علنيته ووضوحه، حول الاتفاق النوي الإيراني، تهافت زعماء أهم الدول في الاتحاد الأوروبي، ألمانيا وفرنسا، لزيارة روسيا ولقاء الرئيس الروسي فلايمير بوتين، والحديث عن تمكين التعاون الأوروبي الروسي على أصعدة عدة، أهمها: الدفاع عن مشروع نقل الغاز الروسي إلى أوروبا رغم المعارضة الأمريكية المستمرة.
وإذا كان أتباع الأمريكي، ومن كان ولا يزال أداة له اليوم لا يستطيع أن يدرك تراجع الولايات المتحدة دولياً، وليس بإمكانه أن يرى هزائمه خلف تطبيلاته الإعلامية وانتصاراته على الشاشات، فواشنطن والأوروبيين أنفسهم مُدركين جيداً بأن تراجعهم بات فِعلاً ماضٍياً، وأنهم اليوم منهزمون، ويصارعون بعضهم في إطار «من يربح أقلّ الخسائر»، وأن الأوروبيين في ما بينهم أيضاً مُختلفون حول كيفية الفكاك من جحيم سياسات واشنطن... وليس مستغرباً بأن ألمانيا، ذات الوزن الاقتصادي الأكبر في أوروبا، هي أوّل القادرين على الانطلاق في هذا المسار.
من أين للمنهزم
أن يلقي التهديدات؟
بالطبع، عويل واشنطن، ووقاحة تصريحاتها، وعلوّ نبرتها، لا تعرب إلّا عن حجم قلقها، فقبيل وبعد زيارة ميركل لروسيا ومقابلتها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لبحثهم مشروع «السيل الشمالي 2»، تهافتت التصريحات الإعلامية الأمريكية مهاجمةً ألمانيا وروسيا والمشروع بمجمله، ملقية التهديد والوعيد بعقوبات اقتصادية وحرب تجارية على ألمانيا، في محاولة ضغط على الأخيرة للتخلي عن اتفاق الغاز هذا.
ولهذا القلق أسبابه، فبحسب «إدارة معلومات الطاقة EIA» التابعة لوزارة الطاقة الأمريكية، إن تصدير الغاز الطبيعي المسال من الولايات المتحدة في العام 2017 قد زاد بنحو أربعة أضعاف مقارنةً بعام 2016، وبحلول عام 2020 تطمح الولايات المتحدة لأن تصبح ثالث أكبر مورّد للغاز الطبيعي المسال في العالم. لذلك فإن واشنطن تسعى بكل ما لها من قوة وأدوات متبقية لإزاحة المنافس الروسي القوي، وأن تبتز حليفها الأوروبي لتحقيق رغبات ومصالح الإدارة الأمريكية، وإن كانت تتناقض مع مصالح الأوروبيين أنفسهم، فبحسب ما أشار إليه الرئيس بوتين خلال مؤتمر صحفي مشترك مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في سوتشي، يوم الجمعة 18 أيار الجاري، فإن سعر الغاز المسال الأمريكي هو أعلى بـ 25 أو 30 % من سعر الغاز الروسي، ومحطات الغاز المسال في أوروبا لا تستخدمه إلا بنسبة 25 إلى 30 % بسبب عدم وجود الجدوى الاقتصادية.
من البراغماتية الأمريكية إلى التعجرف
يدرك الأوروبيون، أنه ومع الترابط المالي والاقتصادي الكبير حول العالم، فإنه أينما فرض الأمريكي عقوباته ستكون أوروبا متضررة منها، وهذا ما حدث عندما فرضت واشنطن العقوبات على الشركات الأوروبية المتعاونة مع روسيا في مشروع «السيل الشمالي2»، وعند فرضهم عقوبات على إيران فإن الشركات الأوروبية المستثمرة هناك ستكون أكبر المتضررين، لذلك فإن سياسات واشنطن والتعجرف الأمريكي يجبر حتى أقرب الحلفاء على التمرد، في سبيل النجاة والقفز من المركب الغارق.
لقد امتازت السياسة الأمريكية طوال فترة تسلّطها دولياً ببراغماتيتها نظراً لامتلاكها الوزن الأكبر موضوعياً، والذي لم تكن مضطرة فيه بكثير من الأحيان لإظهار أساليب أخرى في دبلوماسيتها، على عكس اليوم، فباختلاف الظروف الموضوعية الدولية باتت السمات الخاصة الأمريكية في سياق العلاقات الدولية تأخذ شكلها الحقيقي تدريجياً في التعجرف، وفقاً لبنيتها الإمبريالية رغم خسائرها الاقتصادية وهزائمها السياسية، ولكن على الرغم من ذلك فإن حجم مأزقها لا يتيح لها الرفاهية لممارستها.
روسيا تردّ على واشنطن
بدعوتها لشركاء جدد
أكّد الرئيس الروسي بوتين بأنه سيدافع عن «مشروع السيل الشمالي 2» وأشار إلى انفتاح المشروع أمام شركاء جدد للانضمام إليه، رداً على تهديدات واشنطن، الأمر الذي يعني فتح الطريق أمام دول أوروبية أُخرى لعقد اتفاقات اقتصادية مع روسيا، سواء في هذا المشروع أو غيره. ومن الجدير بالذكر، أن مشروع «السيل الشمالي 2» لنقل الغاز الروسي إلى ألمانيا عبر بحر البلطيق، التفافاً على دول الترانزيت، يقضي ببناء خطين إضافيين لأنابيب الغاز بموازاة أنابيب «السيل الشمالي»، تبلغ القوة التمريرية لكل منهما 55 مليار متر مكعب من الغاز في السنة.
وفي ظل الصراع الأوروبي_ الأمريكي والأزمة الرأسمالية، وتماوت الدولار، فإننا لا نتوهم بالقول: إن العلاقات الاقتصادية الروسية- الأوروبية ستمضي نحو توافق أكثر.
فرنسا أيضاً
على نهج جارته الألمانية، بدأ ماكرون زيارة رسمية إلى روسيا يوم الخميس 24 أيار الجاري، تم فيها توقيع وثيقة استراتيجية للتعاون في مجال الطاقة الذرية السلمية، بالإضافة إلى توقيع اتفاقية بين شركتيّ الطاقة الروسية «نوفاتيك» والفرنسية «توتال» في مشروع «أركتيك 2» للغاز الطبيعي المسال في أقصى الشمال الروسي. حيث يبدو أن فرنسا أيضاً تسعى للنجاة بأقلّ الخسائر جرّاء هزائم الأمريكي، مركز المركز الرأسمالي، وتَمضي في اتفاقاتها الاقتصادية متخليةً عن الأمريكي، وغير مكترثة بموافقته من عدمها.
الفضاء السياسي الجديد
إن السياسة كما ندركها، هي: لغة التعبير عن المصالح كلٌّ حسب موقعه ومكانه في المعادلات الاقتصادية وعلاقاتها، فهذا الفضاء بمعنى آخر، هو: نتاج فضاء اقتصادي مُختلف يأخذ شكله يوماً بعد يوم بعلاقات ومعادلات مُختلفة كلياً عن سابقها، لتفرض موضوعياً، لغةً وأوزاناً سياسية مُختلفة، أضف إلى ذلك الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها المركز الرأسمالي الأمريكي، وتخلّي حلفائه عنه، فنجد أنّه من الطبيعي ألّا لغة هنالك سوى التعجرف، ومن الطبيعي أيضاً أن يبقى يتراجع ويخفّ وزنه حتى يصبح بلا وزن بالمعنى السياسي، وغير مؤثر بذاته، وأن الطريق يصبح ممهداً ومفتوحاً أكثر أمام الشعوب لتستعيد وزنها الأكبر من أي تحالف اقتصادي آخر، لتعبّر عن مصالحها بلغة وعلاقات سياسية جديدة، تناهض فيها المنظومة الرأسمالية ككل.