واشنطن إقليمياً: مرحلة بين «إدارتين»
باتت التغيرات الإقليمية في الأسابيع القليلة الماضية، تتسارع بشكلٍ يومي كنتيجة للتخبطات الأمريكية، التي تجاوزت بحسب كثيرين الحديث المكرور عن مجرد مرحلة «بطة عرجاء» تمر بها الإدارات كلها الأمريكية في سنتها الأخيرة.
هنا نحاول رصد السلوك الأمريكي في بعض الملفات العالقة إقليمياً، في هذه المرحلة بالذات، وبالتحديد في العراق واليمن، وربطها بالمسار العام المتخذ من قبل الإدارة المنتهية ولايتها، وما قد تأتي به الإدارة الجديدة بعد أيام من الآن..
منطق التغيير المنفرد
لا تقترن الأزمة التي تعاني منها واشنطن، فقط بصوابية سلوكها من عدمه من وجهة نظر المصالح الأمريكية، بل تقترن أكثر بتغيرات في موازين القوى الدولية، تفقد فيها واشنطن جزءاً واسعاً من أدوات التحكم والتأثير، كما هو واضح في سورية مؤخراً.
يدفع هذا العامل المحسوس أمريكياً الإدارة الحالية إلى القيام بمجموعة من الإجراءات، تأخذ بعين الاعتبار عدم تلقي صدمات كبيرة، تمس المصالح الاستراتيجية الأمريكية بشكل عام، كفقدان سيطرتها على كامل ملف بعينه.
وعلى هذا الأساس، يمكن النظر مثالاً إلى واشنطن في الملف اليمني، هناك، ما تزال «الرباعية الدولية»، المعنية بحل الأزمة اليمنية، والتي تتضمن الولايات المتحدة وبريطانيا والسعودية والإمارات، هي المسؤولة بشكل كبير عن تطورات الملف السياسي والعسكري في اليمن، أي أن معسكر القوى المعادية لواشنطن، والممثل في روسيا والصين بشكل خاص، وخلفهم دول أخرى في المنطقة، هذا المعسكر يناظر عن قرب تعهدات واشنطن وحلفائها بحل الملف اليمني، على أساس قرار مجلس الأمن 2216 بشكل رئيسي.
أي أن واشنطن مجبرة على إبداء حراك سياسي لهذا الغرض، لكن في الوقت نفسه، وربطاً بمسار السلوك الأمريكي المرتكز على تعقيد ملفات المنطقة وربطها ببعضها البعض، فإنها لا تريد إعادة الهدوء إلى اليمن، إذاً ما العمل أمريكياً؟
من جهة، هناك الخوف الأمريكي من عودة الملف اليمني إلى مجلس الأمن بحل وشروط جديدة غير القرار المعتمد حالياً 2216، أي إمكانية ظهور دول إقليمية ودولية تريد المشاركة في حل الأزمة اليمنية، ومن جهة أخرى فإن اليمن من وجهة النظر الأمريكية لا يجب أن يكون السابقة الأولى دولياً في إغلاق ملف سياسي باليد الأمريكية وحدها!
من هنا، جاء ما سمي بـ«مبادرة كيري»، التي هي عملياً إعادة اجترار لقرار مجلس الأمن الدولي 2216 لا أكثر، ومؤخراً تعديلات خارطة الطريق، والتي أشرفت عليها واشنطن وأصدرت خارجيتها بياناً حول هذه التعديلات بعد اجتماع الرباعية في 18-19 الشهر الحالي.
في مضمون البيان، تبدو المحاولة الأمريكية لوضع الحل السياسي على السكة مجدداً بعد جولة مفاوضات الكويت، وعدم ترك الملف على حاله دون تحريك، تداركاً لأي طارئ غير محسوب، أو تحريك الملف والضغط اتجاه حله من قبل قوى دولية خارج الرباعية المقادة أمريكياً.
حول القضية الفلسطينية
ضمن منطق التراجع الأمريكي في المنطقة، جاء قرار مجلس الأمن في 23/كانون الأول الحالي، بإدانة الاستيطان الصهيوني في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما في ذلك القدس الشرقية. القرار الذي صوتت لصالحه 14 دولة، فيما امتنعت فيه الولايات المتحدة عن التصويت دون أن تستخدم حق الفيتو، على المشروع.
بعد القرار، خرج وزير الخارجية الأمريكي، جون كيري، في 28/كانون الأول الحالي، ليؤكد: أن «حل الدولتين هو الطريق الوحيد للوصول إلى السلام»، مضيفاً: «برغم جهودنا المخلصة على مدى سنوات، بات حل الدولتين الآن في خطر شديد».
يمكن القول: أن ما جرى في مجلس الأمن يشير في أحد معانيه إلى إدراك أمريكي، بأنه من الممكن فقدان السقوف الحالية لتسوية القضية الفلسطينية، فيما لو استمرت في دعم الكيان على الشاكلة السابقة في جميع ما يذهب إليه من سياسات، ومن جهة أخرى، فإن واشنطن ظهرت في مجلس الأمن وكأنها تقف على مسافة من حليفها الصهيوني، و«باحثة عن حل للقضية الفلسطينية»، في الوقت الذي تستمر فيه روسيا بالدعوة إلى مفاوضات بشأن حل القضية الفلسطينية في موسكو، ما يشير إلى أن واشنطن ربما لا تريد للموضوع أن يخرج تماماً نحو يد القطب الصاعد، وأن يجري استثناؤها منه بشكل كامل.
الموصل معضلة أمريكية
الموصل هي مركز التجمع الأكبر لمسلحي «داعش»، وعليه، فإنها تأخذ صفة المعركة المحورية في «مكافحة الإرهاب»، وبالنظر إلى استعصاء المعركة على حدود المدينة، والشكوك حول فعالية الدعم الأمريكي للقوات المتقدمة، واستراتيجية غرفة العمليات التي يلعب فيها الجانب الأمريكي دوراً مؤثراً، بالإضافة إلى تسرب مقاتلي «داعش» بشكل مريب إلى مدينة تدمر السورية، قد يعني إعادة النظر في المعركة ضمن إحداثيات جديدة، أهمها نجاعة النشاط العسكري الروسي في سورية من حيث النتائج، واقتراب الحل السياسي في سورية، وتسهيل المعركة ضد الإرهاب هناك، وبالنتيجة زيادة الضغط على النموذج الأمريكي سلبي النتائج في العراق.
ففي آخر تصريحات العسكريين الأمريكيين في العراق، يقول ستيفن تاونسند، قائد القوات الأمريكية في سورية والعراق، وقائد «التحالف الدولي»، إن تحرير مدينة الرقة السورية، والموصل العراقية، والتخلص من بقايا تنظيم «داعش» قد يحتاج إلى عامين، جاء ذلك في مقابلة أجرتها معه صحيفة «ديلي بيست».
هذه الحسابات الأمريكية، العسكرية فقط قد تكون صحيحة فيما لو نظرنا سكونياً إلى ما يجري حول الموصل والرقة، دون الأخذ بعين الاعتبار تغيرات موازين القوى الدولية وبالتالي الإقليمية، وبكل الأحوال فإن الأوضاع الإنسانية في الموصل بحسب تقارير الأمم المتحدة تتجه نحو كارثة إنسانية نتيجة حصار المدينة واستخدام «داعش» المدنيين كدروع بشرية، وهو ما يعني أن الرؤية الأمريكية المنفردة لم تعد صالحة وقد تدفع ضرورات المعركة، إلى وضع جديد ليس للأمريكيين وحدهم التحكم بمجرياته.
مما سبق، يمكن التأكيد: أن الإدارة الأمريكية الحالية في أحد أهدافها، تسعى للحفاظ نسبياً على وجودها الفعال في المنطقة، لكن في الوقت نفسه استمرار مشروع العرقلة والتشبيك، وهو ما اتهم به صراحة الرئيس الجديد دونالد ترامب، إدارة الرئيس أوباما، بعيداً عن الاختلاف بين الإدارتين الراحلة والقادمة، بالنظر إلى أن الولايات المتحدة تعيش حالة تخبط تعني أن الصراع في سياساتها الخارجية منها والداخلية، ستبقى نواتج الصراع المستمر بين النخب الأمريكية على اختلاف توجهاتها.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 791