وسيم نابلسي وسيم نابلسي

هل انتهى دور النموذج الامبراطوري للهيمنة الغربية؟

في منتصف القرن التاسع عشر، كان الغرب يؤمن بأنّ العلم كفيل بالإجابة عن كل الأسئلة، وبتحقيق الجنة على الأرض. كانت الثورة الصناعية في ذروة تألقها، وكانت الاكتشافات العلمية والاختراعات تتدفق كنهر جارف. ولكن بعد قرن على ذلك، كان الموقف مختلفاً. اكتشف الغرب أنّ حداثته تسبّبت بحربين عالميتين أودتا بحياة الملايين، في مشهد مروع، لم يشهد له التاريخ مثيلاً. وبدلاً من تحقيق الجنة على الأرض، كان شبح الفناء النووي يحوم فوق الكوكب.

لا يقتصر الأمر على ذلك فقط، بل إنّ العلم المعوّل عليه كان قد وقف عاجزاً منذ ثلاثينيات القرن العشرين أمام الفيزياء الجزيئية. وبدلاً من النتائج العلمية الصارمة، كانت نظريات الفيزياء الكمية تتحدث عن اللاحتمية وعن الاحتمالات. وإذا أضفنا الآثار الكارثية لأزمة 1929، وما أطاحته من نظريات اقتصادية كانت تعتبر مقدسة قبلها، يصبح من المفهوم أن يتمرد الفكر الغربي على حداثته، ليصبح مصطلح «ما بعد الحداثة» الأكثر بريقاً عنده.

وبعد حوالي 65 عاماً من نهاية الحرب العالمية الثانية، تتصاعد اليوم صيحات: «وداعاً أيها الغرب»، فيما يبدو أنّه استئناف للسياق أعلاه. فهل تجد هذه النبوءات بنهاية التفوق الغربي ما يبررها؟

لقد دخلت «لاحتمية» الفيزياء الجزيئية في صلب نظرية المعرفة الغربية، بعدما اعتبرت كمعطى «حتمي» لا يمكن تجاوزه. وهي تمتدح عادة بأنّها وإن كانت لا توصل إلى نتائج صارمة، إلا أنّها تجعلنا نعرف أكثر. والمستهلك العادي للتكنولوجيا الغربية قد يوافق دون تردد على هذا المديح. إذ ما يزال الغرب يبهره بالتكنولوجيا المتطورة، وخصوصاً في عالم الكومبيوتر والاتصالات. غير أنّ التجربة التاريخية تنبئ بعقم هذا الانتشاء بتوسيع المعرفة من دون التعويل على تراكمها لتحقيق اختراقات علمية جديدة. فقد توقفت الإمبراطوريات الزراعية (منذ الإمبراطورية الرومانية) عند سقف معيّن للتطور الاجتماعي، عجزت عن اختراقه وكانت رغم التوسع في المعارف الزراعية، تنهار كلما لامسته. وكان العالم بحاجة الى انتظار الخروقات العلمية التي أوصلت الى الثورة الصناعية، كي يتمكن من اختراق السقف الزراعي للتطوّر الاجتماعي. هكذا يقف العالم اليوم باحثاً عن خرق علمي جديد، وعن نظرية جديدة في المعرفة، استقال الغرب سلفاً، باستسلامه للاحتمية، من مهمة إنتاجهما.

وإذا كان أحد لا يستطيع أن يحدد حسابياً النقطة التي سيتوقف (أو ينهار) عندها التقدم الغربي، فإنّ بالإمكان رصد بعض الظواهر التي ارتبطت تاريخياً بسياقات الانهيار. فالتفكيكية (من آثار اللاحتمية أيضاً) التي تسم الأدب والفن الما بعد حداثويين، ليست (كظاهرة مضادة للعقلانية) حكراً على القرن العشرين، وليست شكلاً للتمرد على الحداثة الغربية وحدها. فقد سبق أن ظهرت أشكال ( بدائية / سابقة) للتفكيكية المعاصرة في الصين في القرن الثالث للميلاد، كما عند العرب في القرن الحادي عشر. وكان ظهورها مرتبطاً بانحدار في التطوّر الاجتماعي، عاكساً حالةً من التمرد على ما هو سائد وتقليدي، دون القدرة على تقديم بدائل إيجابية للحال المشكو منها.

ظاهرة أخرى تأخذ مداها في الغرب اليوم هي تلك التي تسمى «متناقضة التطوّر» (paradox of development) كما يعرّفها إيان موريس من جامعة ستانفورد. فكل تطوّر اجتماعي، إذ ينجح في حل مشاكل اجتماعية قائمة، إنما يخلق في طريقه مشاكل جديدة. وقد كانت الثورة الصناعية فائقة السرعة في تظهير هذه المتناقضة. وتنبه ماركس وأنجلز إلى ذلك عندما لاحظا كيف أنّ الانتقال إلى نمط الإنتاج الرأسمالي يزيد الفجوة ويعمق اللامساواة بين الطبقات الاجتماعية. ولرصد «متناقضة التطور» اليوم، يمكن العودة إلى ما كتبه فرانسيس فوكوياما أخيراً. فالرأسمالية الغربية نجحت في الماضي وفق منظّر «نهاية التاريخ»، في تسريب بعض المكتسبات إلى الطبقات الاجتماعية الأدنى، بما يكفي لجعل هذه الأخيرة مستعدة للتمسك بالنظام الرأسمالي والدفاع عنه. غير أنّ العولمة واقتصاد ما بعد الصناعة، قد وضعا حداً لذلك. فمن جهة، أدخلت العولمة ما يزيد على المليار من العمال غير الغربيين الى سوق العمل. وكان من الطبيعي أن ينافس هؤلاء نظراءهم الغربيين، غير متسببين فقط بتقليص مكتسباتهم، بل بزيادة معدلات البطالة في الغرب. فشركة جنرال موتورز مثلاً، قيمتها 35 مليار دولار، ويعمل لديها 70 ألف عامل في الولايات المتحدة، مقابل 208 آلاف عامل خارجها. ومن جهة ثانية، فإنّ الاقتصاد الما بعد الصناعي هو بطبيعته اقتصاد غير خلاق لفرص العمل: فشركة فايسبوك، وقيمتها 70 مليار دولار لا تخلق أكثر من 2000 فرصة عمل. والأخطر هو أنّ الدولة في الغرب فقدت زمام المبادرة. فأيّاً تكن الإصلاحات أو السياسات الاقتصادية التي قد تعتمدها واشنطن، فإنّ نجاح شركة هيونداي في تحسين آخر طراز لسياراتها سوف يجعل هذه الإصلاحات عديمة القيمة. يقود ذلك، بطبيعة الحال، إلى الحديث عن أزمة الديموقراطية الغربية. فهذه الأخيرة استندت بالأساس إلى الاقتصاد الصناعي في إطار سيادة الدولة القومية. أما في ظل الاقتصاد المعولم والما بعد صناعي، فهي فقدت جدواها كنظام سياسي. إذ اقتربت برامج الأحزاب السياسية المتنافسة بعضها من بعض، حتى كادت تتطابق وغاب عنها ذلك التناقض الولاد للإبداع. وأصبح النظام الصيني موضع حسد الديموقراطيات الغربية، لقدرته على اتخاذ قرارات ضخمة ومعقدة بسرعة كبيرة، فيما تتخبط المؤسسات الديموقراطية عاجزة في مكانها.

وفي السياق نفسه، يأتي عجز القادة الغربيين عن اتخاذ القرارات الملائمة لمعالجة الأزمة في منطقة اليورو (كما في الولايات المتحدة)، رغم كل ما يسال من حبر عن عدم جدوى الوصفات التقليدية المتبعة حتى الآن. فالمشكلة ليست في عدم كفاءة الزعماء، أو عدم سماعهم للنصح، بل في عجز النظام نفسه، لكونه غير مهيّأ لمواجهة تلك الإشكاليات المستجدة.

هكذا يظهر جليّاً أنّ التوسع الغربي الذي تلى سقوط الاتحاد السوفياتي، لم يكن نهاية التاريخ، بل هو على الأرجح بداية الانهيار (المتكرر تاريخياً) الذي يلي توّسع الإمبراطوريات إلى حدود أكبر من قدرتها، أو ما يسميه بول كينيدي «Imperial overstretch».

ومن هنا يمكن القول إنّ ما يعانيه الغرب اليوم ليس أزمة اقتصادية فحسب. بل إنّ ما يظهر في الاقتصاد إنما هو رأس جبل الجليد الذي يخفي تحته أزمات أعمق، في الفكر والاجتماع والسياسة وغيرها. فالإشكالية أبعد بكثير من الأرقام المتداولة عن تفوّق معدلات النمو الاقتصادي في دول البريكس (البرازيل، روسيا، الهند، الصين وجنوب أفريقيا) على مثيلاتها في الغرب. ولأنّ التاريخ لا يسير عادة بشكل مستقيم، فإنّ الأرقام التي تشير إلى اقتراب الصين من أن تصبح الاقتصاد الأول في العالم قد لا تنمو بطريقة متوالية حسابية هادئة. فالواقع الغربي ينبئ باستنفاد الغرب لرسالته الحضارية، وبأنّ جدلية التاريخ قد صارت ضده، حتى أصبح في حاجة إلى ولادة جديدة قد لا يكون القلب الحالي للغرب (أوروبا وأميركا) مسرحاً لها.

 

• الاخبار اللبنانية

معلومات إضافية

العدد رقم:
544