انتخابات الرئاسة الفرنسية: «يسين – يمار» على الطريقة الأمريكية..
مع اقتراب موعد الاستحقاق الانتخابي لمنصب رئاسة الجمهورية في فرنسا في ربيع العام المقبل، تزداد معالم اللوحة الانتخابية تشابكاً في ظل كثرة عدد المرشحين حتى داخل الأحزاب منفردة أو الائتلافات مجتمعة مع بقاء التقسيم الرئيسي قائماً على خطى الطريقة الأمريكية بين حزبين رئيسيين «يميني» و«يساري» يحتكران النفوذ والسلطة ويتناوبان عليها وسط عمليات تحضير وتصنيع إعلامي مكثف ومدروس للوجوه المتنافسة، دون أن يلغي ذلك احتمال بروز مفاجآت في اللحظات الأخيرة.
سيغولين رويال: حقيقة أم «فرس سباق»
ومع توالي الترشيحات داخل الحزب الاشتراكي إلى رئاسيات 2007 وبانتظار أن يحسم الحزب في انتخابات داخلية ستجري في أواسط الشهر المقبل، شخصية المرشح أو المرشحة التي ستحمل لواءه في المعركة الرئاسية فإن صورة سيغولين رويال، النائبة الحالية والوزيرة السابقة والمرشحة المعلنة للسباق الرئاسي تسيطر على كل المنافسين الآخرين داخل الحزب الاشتراكي، وبينهم رئيسا حكومة سابقان «ليونيل جوسبان -أعلن انسحابه- ولوران فابيوس» ووزير اقتصاد سابق «دومينيك شتروس خان» ووزير ثقافة سابق شهير، ويتمتع بشعبية واسعة في أوساط الشباب والفن والثقاقة «جاك لانغ» وأخيرا سكرتير عام الحزب الاشتراكي الحالي الذي هو في الوقت نفسه «رفيق درب» سيغولين رويال ووالد أولادها الأربعة «فرنسوا هولند». فضلا عن ذلك، تبدو رويال المصنفة بين النساء العشر الأوائل الأكثر إثارة في العالم، الوحيدة من بين كل المرشحين الاشتراكيين القادرة على إنزال الهزيمة بمرشح اليمين الأقوى رئيس الحزب الحاكم، الاتحاد من اجل حركة شعبية ووزير الداخلية الحالي نيكولا ساركوزي، على الرغم من وجود تخوفات بعدم قدرتها على مجاراته في أي مناظرات مباشرة تجري بينهما.
صراع يمين- يمين
بالمثل كان التنافس يشتد هذه المرة بين أقطاب اليمين وعلى رأسهم رئيس الوزراء دومينيك دوفيلبان، ووزير الداخلية ساركوزي في وقت كان يعتبر فيه الأول هو الرجل المقرّب للرئيس الفرنسي الذي سعى جاهداً قبل أن يعلن دوفيلبان انسحابه لتلميع صورة رئيس حكومته والدفاع عنه ومساندته في كل الأزمات التي مرّ بها، بينما توقع المراقبون أن يضطر الرئيس الفرنسي في أوج الأزمات التي عرفتها البلاد في الأشهر الأخيرة إلى تغيير دوفيلبان حتى لا تستثمر المعارضة «اليسارية» الوضع المتأزم لكسب شعبية كبيرة تضع في الميزان فوز اليمين في الانتخابات الرئاسية القادمة.
ساركوزي: ثنائية القطيعة وطمأنة الرأسمال..
في نظر ساركوزي ، تعكس مسألة "قطع الصلات بالماضي" خيارات تكتيكية شديدة الخصوصية. ذلك أن فترة الاثني عشر عاماً التي قضاها جاك شيراك في الرئاسة، علاوة على التقليد الفرنسي الخاص بتناوب السلطة، تشير إلى ارتفاع احتمالات فوز اليسار. وهو يرى أن إظهاره لنفسه في صورة المرشح الذي يؤيد الانفصال الحاد عن السياسات الحالية التي لا تحظى بالشعبية يشكل السبيل الوحيد للفرار من ذلك المصير.
ويمكن إدراك ذلك من خلال موقف ساركوزي المؤيد لأميركا بوضوح ـ وهو الموقف الذي يعبر حسب بعض المحللين في فرنسا عن «شجاعة» سياسية في فرنسا حيث ترتفع شعبياً مؤشرات مناهضة أميركا. وتتلخص رسالة ساركوزي حسب هؤلاء في أن شيراك ودوفيلبان كانا مصيبان من حيث الجوهر في معارضة المغامرة العسكرية الأميركية في العراق، إلا أن أسلوبهما كان رديئاً للغاية. وعلى هذا فإن إعجابه الشديد بـ"القيم الأميركية" لا يعكس قبولاً للرئيس جورج بوش ولكنه يسعى لطمأنة مجتمع المال والأعمال الفرنسي، الذي لم يعجب بانتقادات دوفيلبان لواشنطن حين كان وزيرا للخارجية.
الإرث الثقيل
ولكن ساركوزي نفسه بموقعه وزيراً للداخلية يحظى بسجل سيئ لدى عامة الفرنسيين، وخاصة مع تكرار الاضطرابات الأمنية والمداهمات والمواجهات مع الشرطة بما فيها الأسبوع الماضي لاسيما في الأحياء الفقيرة بما يعكس احتقانات اجتماعية اقتصادية عميقة في بنية الدولة والمجتمع الفرنسيين. ويضاف ذلك إلى استياء الفرنسيين من الأسلوب الذي اعتمده ساركوزي في معالجة تفجر الأوضاع إبان ما سمي بالانتفاضة الشعبية الفرنسية احتجاجاً على التهميش والإفقار والتمييز وما تلاها بفاصل زمني قصير من احتجاجات واسعة على ما سمي بعقد الوظيفة الأولى. وهنا كما في القضايا الخارجية كان وزير الداخلية الفرنسي متقلباً في آرائه. ففي 25 كانون الثاني 2006، اعتبر أنّ عقد العمل الأوّل "يمثّل إجراءً مُمتازًا لعمالة الشباب". ثم تراجع بعد ستة أشهر ليقول: "كنتُ مقتنعًا أنه سيُنظَر إلى عقد العمل الأول على أنّه غير عادلٍ وذلك لأنّه غير عادل". وفي تموز الماضي، رحّب بحرارة بالقصف وبالتحضير لاجتياح جنوب لبنان بحجّة أنّ "إسرائيل تدافع عن نفسها" لكنّه أعلن لاحقًا اتفاقه مع رئيس الجمهورية الذي كان أكثر تحفّظًا منه حول الموضوع.
رويال: القطيعة دون بدائل واضحة
أما في نظر رويال التي تشاطر منافسها الرغبة في التقرب من أمريكا على حساب أوربا، فإن المغزى من "قطع الصلات بالماضي"هو أكثر وضوحاً وأشد بروزاً. فهي تسعى جاهدة لكي تصبح أول رئيسة للجمهورية الفرنسية. وفي سبيل ذلك فهي تفضل التأكيد على "جوهرها"، وتتبنى توجهاً بسيطاً في مخاطبة الناخبين: "أنا امرأة، وأنتم لم تجربوا امرأة من قبل. لذا عليكم أن تتحلوا بروح المعاصرة وأن تجربوا امرأة الآن".
وباختبائها خلف تفردها كامرأة (فيما يتصل بالسياسات الرئاسية الفرنسية)، نجحت رويال في تجنب الإفصاح عن برنامج انتخابي مفصل. وحين تحداها الصحافيون بتحديد أجندتها السياسية، كان خط دفاعها الناجح (حتى الآن!) يتلخص بردها: "ما كنتم لتجرؤون على توجيه مثل هذا السؤال لو لم أكن امرأة!". ولكن افتقار رويال إلى البرنامج الانتخابي كان مكمن قوة بالنسبة لها، إلا أنه قد يكون سبباً في سقوطها. وسيكون لزاماً عليها أن تتخلى عن غموضها المدروس، وربما تضطر إلى دفع ثمن ذلك أيضاً، لأن عدداً ضئيلاً من الناخبين قد يؤيدون شخصاً يعتمد برنامجه السياسي على التعليم والدفاع عن الأسرة فحسب.
هل يطل شيراك برأسه؟
على الرغم من هذا الفرز القائم على نحو مسبق بين ساركوزي - رويال، فإن سيرورة الانتخابات قد تبرز مفاجآت بأسماء أخرى. فالرئيس جاك شيراك نفسه المضغوط بأزمات سياسية واجتماعية متلاحقة وجد منذ أشهر عدة متنفساً في وضع الشرق الأوسط لاسترجاع جانب من ثقة الرأي العام الفرنسي ومدخلاً لفرض معادلة سياسية داخلية جديدة مؤكداً أنه سيعطي قراره الأخير بترشّحه أو عدم ترشحه لدورة رئاسية جديدة في بداية العام القادم. وحاول شيراك آنذاك استغلال تطورات الوضع العسكري في لبنان وفلسطين، حيث انتقد العدوان الصهيوني ضد المدنيين اللبنانيين، ولكنه لحسابات سياسية تتعلق بالوجود اليهودي في فرنسا عاد وانتقد حزب الله وحماس.
كما تطرق إلى الوضع الإفريقي وأزمة دارفور في السودان، وهو ما سبقه جملة من التحركات من بينها استقبال الفريق الفرنسي الخاسر كأس العالم وهي بمجملها إشارات مهمّة للمستقبل السياسي لشيراك وتعطيه دفعاً جديداً وتكسبه تعاطف الرأي العام الفرنسي..
لوبين: احتياط اليمين في وجه اليسار
أما سعي قوى اليسار الأخرى في فرنسا بما فيها اليسار الحقيقي والنقابات العمالية للاتفاق على مرشح موحد في حال تم ذلك وتم الخروج باسم قوي فقد يهدد هذا السباق المصطنع القائم بين رويال وساركوزي ويدفع قوى اليمين إلى تقديم ممثلها الأكثر تطرفاً: جان ماري لوبين رئيس الجبهة الوطنية.
وحين يقرر الناخبون في ربيع 2007 فقد يعتمد اختيارهم بصورة أكبر على اعتبارات سلبية أكثر منها إيجابية، كما حدث في العام 2002 حين واجه شيراك القومي المتعصب جين ماري لوبان في الجولة الثانية من الانتخابات. وفي كل الأحوال، سوف يكون للشخصية الغلبة على البرنامج الانتخابي.
ومن ضمن الأسماء المطروحة خارج السرب السلطوي التقاسمي النقابي القيادي الفرنسي جوزيه بوفيه المعارض البارز للعولمة الذي قال إنه مستعد للترشح عن "يسار اليسار" بالانتخابات الرئاسية مضيفاً أن ترشحه يهدف "الجمع بين يسار الحزب الاشتراكي ويسار مناهض لليبرالية، ومؤيد لحماية البيئة ولعولمة بديلة".
وسبق لبوفيه أن أوضح سابقاً أن "الترشيحات داخل الحزب الاشتراكي منبثقة عن يمين الحزب ويفسح لترشيح من يساره.
تصنيع الوجوه وتغيير التبعية..
لقد قدّمت وسائل الإعلام الفرنسية الرئيسية الانتخابات الرئاسيّة المرتقبة على أنّها محصورة سلفًا بين ساركوزي ورويال. وفي حين يستفيد الاثنان من شخصنة الانتخابات، يبقى لدى ساركوزي رئيس المجلس العام لمقاطعة السين العليا الأغنى في فرنسا ميّزة خاصّة لم يحظَ بها أبدًا أيّ مرشّحٍ قبله وهي دعمِ مالكي وسائل الإعلام له وهو الذي سعى منذ عشرين عامًا لبناء شبكة نفوذ له داخل وسائل الإعلام، في خدمة طموحاته العليا..
في المقابل وفي نظر العديد من معارضي رويال بين الزعامات الاشتراكية فإن السيطرة على أجهزة الإعلام في العملية السياسية يؤدي إلى الضعف: ذلك أن السمات اللازم توفرها في شخص ما لكي ينتخب تكاد تكون الآن متضاربة مع السمات المطلوبة للحكم. وطبقاً لرأي منتقدي رويال من الاشتراكيين فإن التلاعب بالسياسة على طريقة هوليود يترتب عليه ضرورة تبني توجه جديد حيث يتحول الزعماء إلى تابعين والتابعين إلى زعماء.
استطلاعات الرأي الأخيرة
بالمثل، أظهر استطلاع للرأي في فرنسا أن60% من الفرنسيين يعتبرون أن المسئولين السياسيين بالبلاد فاسدون. وكشف الاستطلاع الذي تم بمشاركة ألفي شخص ونشرته صحيفة لاكروا الفرنسية مؤخراً, عن أن32,6% يعتبرون أن الفساد الحالي أكثر مما كان عليه في السابق. وأشار الاستطلاع إلي أن أكثر من ثلثي المشاركين يرون أن الفساد وصل إلي المؤسسات السياسية الرئيسية حيث ذكر77,9% أنه انتشر داخل الحكومة ورأى69,1% من المشاركين أن الفساد وصل إلي رئاسة الجمهورية بينما ذكر68% أنه انتشر بين النواب. كما أظهر الاستطلاع أن61,2% علي استعداد للتنديد بعمليات الفساد في فرنسا.
رأي الماركسيين من الشباب والعمال والطلاب
يقول بيان صادر عن التيار الفرنسي المسمى اتحاد العمال والشباب والطلاب الماركسيين: «إن البرجوازية الواعية بالهزيمة التي ستتكبدها أحزابها خلال انتخابات 2007 (ليس فقط بسبب القانون الجديد، بل لكل تلك الخمس سنوات من السياسة التقشفية التي طبقتها الحكومة) بدأت تقوم بالدعاية لمرشحتها الأوفر حظاً سيغولين رويال لتمثيل الحزب الاشتراكي في السباق نحو الإليزيه. (..) (ولكن) رويال لزمت الصمت تجاه الاحتجاجات ضد "عقد العمل الأول" وصرحت بسرور أن بلير هو "مثلها الأعلى".
ويظهر مرة أخرى أن هذه المحاولات للدعاية لرويال هي تكتيك تقوم به البرجوازية للتأكد من أنه، في حالة ما فازت الحركة العمالية بالانتخابات، فإن شيراك ودوفيلبان سيعوضان في الحكومة برئيسة ناعمة وإصلاحية موالية لقانون السوق.
نحن كماركسيين ننظر بحماس وتفاؤل إلى هذه الوحدة بين الشباب والطلاب والعمال أيضا بطبيعة الحال. إنها خطوة جد بناءة في النضال ضد النظام الرأسمالي وسادته البرجوازيين. يتوجب علينا، نحن الماركسيون، أن نكافح من أجل الحفاظ على هذه الوحدة والمساهمة في هذه التظاهرات الموحدة للدفاع عن مواقفنا ومنهجيتنا، باعتبارها الوحيدة القادرة على التحقيق الفعلي للمجتمع الاشتراكي. إن المكاسب الاجتماعية للطبقة العاملة لا يمكن الحفاظ عليها في مرحلتنا هذه حيث تعيش الرأسمالية أزمتها. إن الطريق الوحيد الذي يمكن من الحفاظ على مكاسبنا يمر عبر انتزاع وسائل الإنتاج من يد الطبقة التي تملكها حاليا، أي الطبقة البرجوازية، ووضعها في يد الطبقة التي تنتج الثروة للمجتمع، الطبقة العاملة»..
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 284