عن مشروع الشرق الأوسط الجديد -4-
...ولذلك فان جميع وثائق الأمن القومي الأمريكي وآخرها وثيقة 2006 تنص على: الأمن المطلق– زعامة أمريكية ممتدة- القرن الأمريكي.
وتؤكد آخر وثيقة على أن «الولايات المتحدة تمر بأولى سنوات صراع طويل الأمد وهو وضع مشابه لما أجبرت بلادنا على مواجهته في بداية الحرب الباردة». وتتحدث وثيقة أخرى عن مراجعة إستراتيجية الدفاع تضمنت 140 إجراءً عسكرياً لبناء القوة العسكرية الأمريكية على امتداد 20 عاماً.
والغريب أن الكثيرين يتحدثون عن أن عالم ما قبل سبتمبر2001 غير عالم ما بعد سبتمبر وهو حديث مخادع وكاذب ذلك أن الوثائق الأمريكية تضمنت خطة احتلال العراق (وليس مجرد غزو العراق) قبل أحداث سبتمبر بأكثر من عام، كما أن خطة ضرب إيران منصوص عليها منذ منتصف عام 2002.
فالمسألة ليست إسقاط ديكتاتوريات أو أسلحة دمار شامل أو إشاعة الديمقراطية وحقوق الإنسان، ولكنه التوسع الامبريالي الأمريكي أفقياً وذلك عبر تدمير قوى المقاومة، سواء تمثلت في دول (مثل سورية وإيران) أو مقاومة مسلحة (مثل حزب الله والمقاومة الفلسطينية) أو أحزاب وقوى سياسية معادية للولايات المتحدة والدولة اليهودية وترفع راية النضال والمقاومة السياسية والشعبية.
وهكذا تحول الإقليم إلى مركز اضطراب واسع منذ عام 1991. وبعد أن كان الاضطراب يسكن أوربا حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، ثم انتقل إلى شرق آسيا لفترة، إلا أنه انتقل بقوة اندفاع شديدة إلى منطقتنا ولكنه هذه المرة في صحبة نقلة نوعية في الممارسة الامبريالية، تمثلت في تحويل الحرب إلى استثمار اقتصادي مباشر.
هكذا تحول الإقليم الذي يمثل قلب العالم إلى هدف مباشر للولايات المتحدة الأمريكية والدولة اليهودية التي تمثل الغرب الرأسمالي الذي تم زرعها عنوة في جسد الشرق العربي الإسلامي، وفي ظل اندماج استراتيجي بين أمريكا والدولة اليهودية بشكل لم تعهده العلاقات الدولية من قبل. وهكذا يتبين خطر مشروع الشرق الأوسط الجديد على حاضرنا ومستقبلنا، وهكذا يتجلي مدى الهوان العربي الذي تسوقنا إليه نظم حكم معبرة عن طبقات طفيلية كمبرادورية تابعة تسهم بنشاط محموم لتكريس هذا المشروع المعادي لشعوب المنطقة.
يكفي أن نشاهد التطبيع مع العدو الصهيوني علناً وخفية، ويكفي أن نشاهد الدعم الهائل للاقتصاد الأمريكي– الذي يعاني أزمة هيكلية ودائمة– في شكل 2 تريليون دولار استثمارات وودائع في الغرب معظمها في أمريكا فقط هذا العام وجه لأمريكا 70 مليار دولار استثمارات في سندات الخزانة الأمريكية خرجت من كبرى البلدان العربية النفطية، وسبق لهذه الدولة أن أنفقت 70 مليار دولار في الحرب ضد السوفييت في أفغانستان التي آل أمرها في النهاية إلى بلد تحتله أمريكا، ويكفي أن البلدان النفطية قد ضخت مئات المليارات من الدولارات إلى شرايين الاقتصاد الأمريكي من فوائض الطفرة النفطية التي أعقبت حرب أكتوبر المجيدة التي عمدها الدم المصري والسوري في وقت كان الاقتصاد الأمريكي يمر بأزمة دورية عميقة وطويلة الأمد، ويكفي أن نشاهد الحصار العربي الخانق المفروض بأوامر أمريكية على الشعب الفلسطيني الشقيق، ويكفي أن نشاهد تكالب حكومات عربية في المشرق العربي وفي المغرب العربي وتهافتها للالتحاق بحلف شمال الأطلسي، ويكفي قبل كل ذلك أن نشاهد اندفاعا جامحا لتنفيذ سياسات اقتصادية واجتماعية وثقافية وتعليمية ودفاعية تدمر الدولة الوطنية وتحاصر منظومات القوة فيها لتسلمها لقمة سائغة للعدو.. إلخ. النظم العربية إذاً تدفع بنا إلى هاوية الشرق الأوسط الجديد.
وبالرغم من ذلك فان الانتصار على العدو الأمريكي الصهيوني ممكن، فقد كان يقين الأمريكيين أنهم يكسبون معاركهم بنصر مطلق: من الحرب الأهلية الأمريكية، إلى الحرب ضد أسبانيا عام 1898، إلى الحرب العالمية الأولى ثم الحرب العالمية الثانية. لكن يقينهم تهاوى في كوريا ثم في فيتنام، وهو يتهاوى الآن في العراق وأفغانستان، كما تهاوى في لبنان (إن الصراعات التاريخية لا تتحدد نتائج معاركها العظمى بما لدى الطرف الأقوى من عدة وعتاد وجنود، ولكن المصائر تحددها مقاومة الطرف الأضعف ومدى صلابتها وزادت خسائرها، وذلك شهدناه في كل حروب التحرير لذا فانه لا بديل أمامنا عن المقاومة ممارسة ورؤية وثقافة.
لقد بدأ الأمريكيون يعترفون– ذوى البصيرة منهم– بالكارثة التي تواجهها بلادهم، إذ قال جنرال أمريكي سابق مؤخراً: الولايات المتحدة الأمريكية تواجه الكارثة الإستراتيجية الأكبر في تاريخها، وتحصد هزيمة لا تصحح، لكن البصيرة مفقودة عند غالبية النخب السياسية في غالبية بلداننا لكنه ومع اشتداد الهجمة المعادية يتسارع ويتسع الفرز داخل كل التيارات السياسية الشيوعية والقومية والإسلامية والليبرالية، وتتحدد الخنادق بشكل واضح (لبنان نموذج واضح) فمن ناحية تقف القوى الوطنية بكل أطيافها في خندق الوطن، بينما يتخندق العملاء من الكمبرادور وممن يتلقون التمويل الامبريالي الصهيوني والليبراليون الجدد الذين جاءوا من كافة الاتجاهات الفكرية ليشكلوا جميعا ومعا ميليشيات حارسة ومدافعة عن المشروع الامبريالي الصهيوني.
ما يدعو للحسرة أن الغالبية الساحقة من حكوماتنا المعبرة عن الكمبرادور لا تؤمن بالإستراتيجية ولا ترغب في امتلاكها. ورغم أن لدى العديد من البلدان العربية خبراء إستراتيجيون على مستويات رفيعة للغاية، قادرون على صياغة استراتيجيات بلدانهم وصياغة إستراتيجية عامة للإقليم فإن هذه القضية غير واردة على بال هذه السلطات ولاشك أن مصر تمتلك رصيداً كبيراً من هؤلاء الخبراء (وتقتضي الأمانة النضالية أن أوجه التحية إلى أحد هؤلاء الخبراء الكبار وهو الصديق الأستاذ أحمد عز الدين الذي استفدت في هذا المقال مما توصل إليه من أفكار غنية ولامعة في قضايا الإستراتيجية).
فهل تشرع القوى الوطنية على مستوى الإقليم كله إلى وضع خطوط عريضة لإستراتيجية مضادة للمشروع الامبريالي الصهيوني في إقليمنا وتكون هذه الخطوط العريضة هي الأساس الذي يجري من حوله حوار عميق لصياغة إستراتيجية شاملة للإقليم، وأن يكون ذلك مصحوباً بعملية حشد واسعة للقوى الشعبية لمقاومة المشروع المعادي؟ هل تشرع هذه القوى في التواصل لصياغة الإستراتيجية المبتغاة والنضال لتحقيق أهدافها كمشروع للنهضة والتوحد والتقدم قبل أن يجرفنا الطوفان؟؟