لنكشف خطر الكيان الوظيفي
كانت رؤية البريطانيين لمسألة الهيمنة على المنطقة العربية أكثر تجذاً من الجميع. إذ أن تثبيت الهيمنة كانت تتطلب وجود كيانات وظيفية أخرى بجانب الكيان الصهيوني، يمكن أن تكون أكثر تمويهاً وقبولاً بحكم الإنتماء، وهذا ما يعطي دورها فاعلية كبيرة، وهذا ما حدث فعلاً.
الإنتقال من الفكرة إلى التنفيذ
في الربع الأول من القرن العشرين صدر وعد «بلفور» بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، كما تم إتفاق «سايكس-بيكو» لتفتيت المنطقة العربية وإقتسامها. قبل ذلك بقليل كان يجري الترتيب البريطاني لإقامة كيان وظيفي آخر، حيث قام تشرشل بدور هائل في إقامته، ألا وهو الكيان السعودي.
وهكذا وبصناعة ومعونة إستعمارية إمبريالية بريطانية قوية نجح مشروع تحالف آل سعود وآل عبد الوهاب بعد محاولات فاشلة إستمرت لأكثر من قرن كامل في إقامة دولة منسوبة لأسرة (وليست أسرة منسوبة لدولة وشعب). قامت بعنف ودموية ليس لهما حدود وعلى أساس الحكم المطلق، والفكر المنغلق، وتوظيف السيطرة على الأماكن المقدسة (مكة والمدينة) في الحجاز لإطفاء شرعية زائفة على حكمهم.
ظل هذا الكيان منذ نشأته في قلب الإستراتيجية والمصالح الحيوية البريطانية ثم الأمريكية، وظل أبناء المؤسس عبد العزيز آل سعود أوفياء لوصيته لحظة وفاته: «إياكم والخواجة.. لاتغضبوه.. وحافظوا على علاقاتكم معه.. فهو من حول الرمال الصفراء إلى أموال وثروة».
الدور الوظيفي
استمر حرص هذه الأسرة وهذا الكيان الوظيفي الذي لا يمتلك صفات الدولة بمعناها الحديث، منذ نشأته وحتى اليوم، على ألا يكون جزءاً من أي إستراتيجية عربية مستقلة، ولم نشهد له أي موقف عملي ضد الكيان الصهيوني قبل أو بعد عام 1948؛ بل كان دوره باهتاً متماهياً من صانعي الكيان المعادي، وحتى بعد عام 1967 لم يتجاوز دوره تقديم قدر من الدعم المالي والموقف الدبلوماسي في المحافل الدولية. كما كان موقف «فيصل» عام 1973 مبنياً على مقايضة تمت مع السادات لإنهاء مشروع جمال عبد الناصر التحرري من جهة، والحرص على الحفاظ على صورة الكيان السعودي الزائفة أمام المسلمين حيث يهيمن على الأراضي المقدسة من جهة أخرى، مثلما كان موقفه الرافض قولاً للصلح الساداتي المنفرد مع إسرائيل مبنياً بدوره على خداع المسلمين لتعزيز وضع الكيان في العالم الإسلامي. لكن هذا الموقف الباهت من الصراع العربي- الصهيوني سرعان ما تراجع منذ مدريد وأوسلو وصولاً إلى الحياد الواضح ثم التعاون المخابراتي مع العدو والتطبيع السري معه.
في كل مواقفه من قضايا التحرر الوطني العربي أو التقدم الإجتماعي أو الوحدة، كان موقف هذا الكيان وظيفياً مشيناً بدءً من موقفه من الوحدة المصرية السورية، إلى ثورة اليمن، وصولاً في النهاية إلى استدعاء الاحتلال العسكري الأمريكي- مدفوع الأجر- إلى السعودية وباقي بلدان الخليج، وموقفه من الاحتلال الأمريكي للعراق وعدائه الشديد للمقاومة سواء في العراق، أو فلسطين، أو لبنان أثناء العدوان الصهيوني في يوليو 2006، وموقفه المطابق تماماً لموقف العدو الصهيوأمريكي ضد ممانعة وصمود سورية ووقوفه الكامل داعماً لموقف العدو، وإستبدال العدو الإسرائيلي- علناً- بعدو عربي ومسلم هو سورية والقوى الوطنية اللبنانية وفي مقدمتها حزب الله وكذلك إيران، وكل مقاومي المشروع الصهيوأمريكي.
لم ينحصر الدور الوظيفي للكيان السعودي في حدود الإقليم العربي، ولكنه تجاوزه بتوجيه إمكانيات مالية هائلة وتجييش الشباب للحرب ضد «عدو» بعيد عنا هو الإتحاد السوفيتي، في حين أن العدو الحقيقي موجود في قلب منطقتنا العربية على بعد أميال قليلة من حدود السعودية. وأنفق هذا الكيان 70 مليار دولار في تمويل الحرب ضد السوفيت في أفغانستان (وهو ما يساوي أضعافه الآن)، وها هي أفغانستان أخيراً قد تحولت إلى مستعمرة أمريكية مدمرة.
بتحديد أكثر فإن هذا الكيان السعودي منذ أن تأسس ظل يحمل طابعاً وظيفياً في خدمة الإمبريالية خاصةً الأمريكية مستخدماً قوة المال المغتصب من الشعب- حر من أية محاسبة في ظل حكمه المطلق الرجعي والمتخلف- بدءاً من إيواء ودعم القوى والأشخاص المعادين للتحرر والتقدم في بلدانهم، وإختراق المجتمعات العربية والإسلامية بالمال والفكر الوهابي المتحجر لتكوين جماعات ومنظمات موالية لهم ومعادية لأوطانها وشعوبها وبناء منظمات إرهابية تكفيرية تستقطب جهد الشباب الذي يعاني البؤس ودفعه إلى ترويع واستنزاف طاقات شعوبهم بعيداً عن مقاومة العدو (وتعتبر منظمات فتح الإسلام وجند الشام ...إلخ أنموذجاً) إلى جانب اختراق المؤسسات الدينية فكرياً ومالياً، وهو ما يشيع مناخاً مواتياً لتمرير المشاريع الإمبريالية المعادية، وصولاً إلى صنع شخصيات عميلة من الأفاقين الذين يتم تحويلهم إلى «مليارديرية» وإعادة تصديرهم إلى بلدانهم الأصلية لممارسة كل ألوان النهب والسرقة والفساد والإفساد والخيانة وإختلاق الأزمات السياسية والشقاق والإنقسام والفتن وإنتاج الدمار (مثلما هو واقع الآن في لبنان الشقيق).
الخطر
لقد أصبح هذا الكيان الوظيفي يشكل خطراً شديداً على المصير العربي كله في ظل دوره المتصاعد ضد قوى المقاومة والممانعة والصمود، ودوره في إنقاذ الإقتصاد الأمريكي الذي يعاني أشد الصعوبات، وبالتالي تقوية الآلة العسكرية الموجهة ضدنا، وذلك عبر توجيه فوائض النفط بمئات المليارات من الدولارات كل عام إلى أمريكا والغرب دون العرب والمسلمين.
كما تحول هذا الكيان الوظيفي إلى قاطرة لباقي النظم العربية الرازحة تحت حكم الكمبرادور، وجرهم إلى مواقف أكثر استسلاماً، والزج بالمنطقة العربية بأسرها بالسقوط أكثر فأكثر في مستنقع «الشرق الأوسط الجديد» و«الاتحاد الأرومتوسطي» وغيرها من مشاريع الهيمنة الصهيوأمريكية والصهيوأوروبية.
أن السلوك الراهن لهذا الكيان الوظيفي «السعودي» كان كاشفاً- وليس منشئاً- عن أن ما نراه ليس موقفاً عابراً أو راهنياً أو مجرد سحابة صيف يمكن أن تنقشع، لكنه يطرح وبشكل شديد الجلاء عن طبيعته المتجذرة فيه، ككيان وظيفيٍ موازٍ ومماثل تماماً للكيان الوظيفي الصهيوني، وأنه يمثل خطراً داهماً على مستقبل شعوبنا العربية والإسلامية بأسرها. إنه يشكل إحتياطياً إستراتيجياً للرجعية العالمية، أي لأخطر أعداء الجنس البشري الإمبرياليين والصهاينة. لذلك فإن كشفه وفضحه ومناهضته والتصدي له هو واجب وطني وطبقي وقومي وديني على شعوبنا وقواها الحية. لا ينبغي التهاون فيه لحظة واحدة.. لأن التهاون هو الضياع.
• المادة كاملة ستنشر على موقع قاسيون
www.kassioun.org