الدولة المذعورة..!
الصور-وحدها- تكشف عمق الأزمة التي تواجه الدولة المصرية بلا غطاء سياسي أو مسحة شرعية، ولعلها من المرات النادرة في تاريخنا الحديث التي تتدهور فيها صورة الدولة إلى حدود تقارب صورة الاحتلال- وهذه مأساة بحد ذاتها، منذرة بما هو أفدح وأخطر، وليس بوسع أحد أن يتوقع-جازماً- ما يمكن أن تندفع إليه الأحداث، ولكن عوامل الانفجار تلوح في الأفق، وتبدو الأرضية الاجتماعية مهيأة له بدواعي اليأس والإحباط، وغياب الأمل في أي تغيير سلمي، والمحرض الرئيسي على الانفجار سياسات نظام الحكم الحالي وما آلت إليه من فشل بدا صريحاً وجلياً في طوابير الخبز ولحوم الحمير النافقة وارتفاعات الأسعار بصورة خطيرة تدفع لمجاعة عامة، وأن يرفق ذلك كله تغول في «الحلول الأمنية» واستبعاد أية حلول سياسية تعمل على مراجعة السياسات والخيارات، وتلافي انسداد يكاد أن يكون شاملاً في القنوات السياسية والاجتماعية.
ومن السيناريوهات المرجحة أن نجد أنفسنا أمام «يناير جديد»، أو مظاهرات جوع مليونية، تغيب عنها قوى سياسية مؤثرة تحكم مطالبها وتقود حركتها، فقد جرى شبه تعقيم للبلاد من السياسة، بتزوير الإصلاح السياسي والدستوري، وتمديد «الطوارئ» باسم «قانون مكافحة الإرهاب»، وإلغاء الإشراف القضائي على الانتخابات العامة، وإحالة الأخيرة إلى «كوميديا هابطة» البطل الأول فيها الأمن، بحيث تمكن حزبه الذي يترأسه رأس الدولة من حصد أكثر من «99 %» من مقاعد المحليات(...)
الدولة المذعورة لم تستخلص النتائج الحقيقية من أحداث المحلة وما جرى بعدها، وأخذت تنكل وتضرب وتعتقل وتصطنع القضايا مثل اتهام جورج إسحاق مع اثنين آخرين، أحدهما مسيحي، بالدعوة للإضراب والتخريب، مع اتهام الإخوان المسلمين -في ذات الوقت- بذات التهم، رغم أنهم ناهضوا الإضراب، وربما لم يتوقعوا أن ينجح وأن يؤثر وأن يستقطب مشاعر الرأي العام.
وبدا في المشهد الذي تلا الأحداث العاصفة في المحلة أن الدولة المذعورة، التي لا تريد أن تصدق أن مجتمعها يئس منها وأخذ يبادلها الكراهية ويمزق صور رموزها، تحرض بعض منابرها الإعلامية على الحريات العامة، وبدا الشعار: «اضرب.. اسحل.. اعتقل.. صادر»، وهذه هيستيريا تؤذي نظام الحكم قبل أي طرف آخر، فالناس ضجرة فعلاً، ويائسة حقاً، ولا تصدق التصريحات الرسمية، ومتأهبة للمشاركة في أي انفجار قادم، أياً كانت النتائج، فلا أحد يطلب من جائع أن يكون حكيماً، أو ألا يخرج للشارع حاملاً سيفه، وهذه مسئولية حكم أفقر الأغلبية الساحقة من شعبه، بينما قطاعات محدودة أخرى تحظى بالثروة والسلطة ومتع الحياة بصورة مترفة لم يسبق لها مثيل في التاريخ المصري كله.
وهذا يعني- في أية قراءة سياسية جادة- أن الشعب المصري شريك رئيسي في التحريض على الحركة إضراباً أو انفجاراً، وأن التذمر الواسع هو الأرضية الاجتماعية لما جرى أو سوف يجري من أحداث عاصفة خلال عام 2008. وأن الدولة المذعورة تساهم بدورها في دفع الأمور إلى منتهاها.
(..) فهذه الدولة، بأزمة الثقة مع مجتمعها، تندفع لـ«الحلول الأمنية»، وتغييب السياسة، ومحاصرة الأحزاب، أو إلى تكرار ما حدث في المحلة من مواجهات مفتوحة دوت فيها طلقات رصاص حي من قوات الأمن، قتلى ومصابون (كبل معظمهم إلى الأسرّة في المشافي –قاسيون)، حرائق وسلب ونهب على نطاق واسع هناك من يعتقد أن للأمن يداً فيها لتسويغ إرهاب الدولة ضد مواطنيها، ولو أنك لم تكن تعرف أن الصور التقطت في مدينة المحلة، قلعة الصناعة المصرية، فربما خيّل إليك أنها من أرشيف غزة أو الفلوجة، ولا يعقل في دولة لديها الحد الأدنى من الرشد أن تضع أمنها في مواجهة مجتمعها، دون أن تكون هناك وسائل سياسية تسمح بمراجعة الخيارات التي أدت إلى الفشل، والإمعان فيه إلى حد تحلل مؤسسات الدولة والروح العامة فيها. والخطير أن اللغة الأمنية ذاتها التي استخدمت في أحداث «يناير» أو «سبتمبر» تستخدم الآن على نطاق واسع في افتتاحيات الصحف الرسمية، من استهانة بالغضب الشعبي ودلالاته، كأنه لم تكن هناك رسائل سياسية في أحداث المحلة، كاشفة لعمق الأزمة في المجتمع كله، وتكاد تلك الصحف أن تستعيد مصطلحات الرئيس السابق أنور السادات في وصف أحداث (1977) بأنها: «انتفاضة حرامية»، وأن المشاركين فيها مجموعة من «البلطجية» ذوي الأغراض المشبوهة، وقد تكون هناك أعمال بلطجة قد حدثت فعلاً، للشرطة دور فيها، أو لصبية الأحياء الأكثر فقراً ويأساً، ولكن العنف البادي الذي طال منشآت عامة وخاصة، هو من جراء تجريم الإضراب السلمي والاستخفاف بحقوق الناس ومطالبهم المشروعة.
(..) أن وضع الأمن في مواجهة مجتمعه، ودفعه لارتكاب جرائم منظمة ضد مواطنيه، يسحب من الأمن دوره واعتباره، فلا أمن بلا سياسة، ولعله قد تناهى إلى مسامع الرئيس ما تقوله -علناً الآن على شاشات الفضائيات- قيادات أمنية سابقة من أن «الأمن شايل الشيلة»، أو ما تردده قيادات حالية في كواليسها من أنها غير مستعدة للمضي في مجزرة محتملة مع مجتمعها لصالح ديناصورات لجنة السياسات، وهذه من علامات أزمة الشرعية عندما تستحكم، أو من مقدمات النهاية المؤكدة، فالدول تحميها مجتمعاتها وقواعد القبول العام بسلطتها، والمعنى في كل ذلك يتجاوز «الأمن» إلى «السياسة». وقد بدا واضحاً -من الرئاسة إلى الحكومة إلى الوطني ولجنة سياساته ومشروعات التوريث فيه والصحافة الرسمية- أن الأزمة عميقة، والأداء السياسي متهافت، والأحداث مباغتة ورد الفعل عليها لا يتجاوز الحسابات الأمنية المباشرة، غير أن الصدمة، وحدث (6) أبريل من الأحداث الكبرى الكاشفة، قد تدفع لإزاحة حكومة نظيف، ولكن تلك الإزاحة الوشيكة لا قيمة ولا اعتبار لها ما لم ترتبط بإعادة نظر جذرية في توجهات الحكم والسياسات التي أدت إلى الكارثة، وهذه هي المسألة الحقيقية، فقد تعتقد بعض الأطراف في لجنة السياسات وما حولها أن إزاحة نظيف، مع الإبقاء على ذات التوجهات العامة، هو نوع من إدارة الأزمة يسمح بتسكينها أو تجاوز احتمال نجاح إضراب متوقع في (4) مايو، والرهان -هنا- أن مثل هذا التسكين قد يزكيه انخفاض محدود في أسعار بعض السلع الرئيسية مثل «الأرز»، أو تحسن ملحوظ في توفير الخبز المدعوم، مع حملة اعتقالات، وربما تلفيق قضايا لبعض النشطاء السياسيين، بتهم التحريض على العنف والتخريب.
وهذا كله تفكير يدور حول الاعتبارات الأمنية أو الآنية، غير مدرك لحقيقة ما جرى يوم (6) أبريل وعمق الأزمة في بنية النظام، وهو يوم له ما بعده، غير أن أحداً لا يعرف ما قد يحدث في اليوم التالي، فمقدمات الانفجار بيئتها الاجتماعية جاهزة للاشتعال، والدولة المذعورة تدفع إليه، وتلوح- الآن في الأفق القريب- بشائره ومخاوفه وسط سحب داكنة.
• «العربي» المصرية