الاتحاد المتوسطي.. الخديعة الجديدة
الحاضر يعلم الغائب.. فرمان الباشا الأمريكي للشرق الأوسط وسائر المتوسطيين:
ياعبادي المتوسطيين.. لقد وليت عليكم ساركوزي بك، بك فرنسا وسائر الفرانكفونية، والذي يتمتع بدعم غوردن بروان بك، وميركل خانم.
أوصيكم ياعبادي المتوسطيين بطاعة واليكم وتقديم الولاء له بمناسبة وبغير مناسبة، وذلك ريثما ننصرف معالينا للموضوع ونرسم لكم خرائطكم الجديدة.
كما أوصيكم بالعناية التامة بأخيكم يعقوب، الذي هو ولدنا وحبيبنا (انتهى).
من هم في مثل سني (81 سنة) يتذكرون أحلاف خمسينات القرن الماضي، حلف بغداد، حلف السانتو، إلخ...
كان سكان المنطقة لديهم ما يكفي من الوطنية ليقاوموا تلك الأحلاف، التي كانت مهمتها ربط الإدارات الثالثية، ومنها العربية بالإدارات الاستعمارية. كان الحلف يستهدف أعداء المستعمرين لا أعداء البلد، ولا أعداء شعوب البلدان الداخلة في تلك الأحلاف. الآن ثمة تطور، الحلف هو اتحاد، والهدف المعلن هو شراكة. طبعاًُ يتمنى المرء أن تقوم اتحادات بين الدول، وخصوصاً الدول المبعثرة الصغيرة، التي لا تستطيع القيام بدور دولي إلا إذا اتحدت، ولكن الاتحاد هنا يتطلب الندية، وأن تتحمل شعوب البلدان الداخلة في الاتحاد مسؤولية ذلك.
هل ثمة ندية بين دولة ثالثية ودولة أوروبية متطورة؟
أحد ظرفاء دمشق قال مرة (ربما في خمسينات القرن الماضي): نتمنى أن يأتينا مستعمر يطورنا ويأخذ منا خمسة بالمئة، كان الدمشقي ينكت فقط، فالواقع أن المستعمر يأخذ كل شيء دون أن يطور. لننظر إلى العالم الثالث كله.. إنه في الحضيض عموماً فيما يخص التطور، في الحضيض بالنسبة للعلوم والتكنولوجيا، بالنسبة للبنى التحتية، بالنسبة للاقتصاد، بل وبالنسبة للأنظمة السياسية والإدارية. كل ما يجده المرء من تطور في العالم الثالث هو المتعلق بامتداد المؤسسات السياسية والاقتصادية للاحتكارات الدولية في المستعمرات، بينما استنزف الاستعمار من أفريقيا خصوصاً وآسيا وأمريكا اللاتينية كل شيء. طبعاً هذا الكلام يتناول الخطوط العامة، ولا يضع في الاعتبار التفاصيل السياسية والاقتصادية التي جرت في العالم بعد الحرب العالمية الثانية، وبالنسبة لفعل الإدارة الأمريكية الاستعماري، فإنه تدمير حتى الجذور للبلدان والشعوب التي تمتد يدها لها، فبلدان أمريكا اللاتينية كانت وما تزال تعاني مآسي تاريخية، وفلسطين والعراق وأفغانستان، تعاني أكثر من مأساة، تعاني تدمير وجودها. الندية بين الدول الثالثية المتوسطية والعواصم الاستعمارية القديمة، ليست فقط غير محققة وإنما لا يمكن أن تتحقق. عدا ذلك شعوب البلدان المتوسطية مبعدة عن إعطاء رأيها في الموضوع. مثلاً، الرئيس الجزائري، عندما تحفظ رئيس وزرائه بلخادم على الاتحاد، حل الأمر ببساطة: أقاله وكلف السيد بويحيى الذي مع الاتحاد (أخبار 24/6/2008). ربما تحفظ السيد بلخادم نفسه غير كاف، ويتعلق فقط بوجود إسرائيل في الاتحاد، التحفظ، إذا وجد، من المفروض أن يكون في القواعد الأساسية، التي تقوم عليها الاتحاد. ما الذي يجمع بلدا مثل الجزائر بفرنسا؟ أين دور الجزائر فيه؟ وأين دور الشعب الجزائري؟ ولمن القرار السياسي والاقتصادي؟ هل تستطع الجزائر موضوعياً أن تشترك فيه.
وغير الندية، هناك الشراكة. الشراكة على ماذا؟ هل تستطيع الجزائر أن تدخل شريكاً في مراكز الأبحاث الفرنسية، في القرار السياسي الفرنسي بدعم أمن إسرائيل، وجعله يشمل أمن إسرائيل وأمن العرب أيضاً؟ الشراكة معناها فقط فتح السوق الجزائرية للنشاطات الاقتصادية والسياسية الفرنسية. بالمقابل، حتى لو فتحت فرنسا سوقها للجزائر، فلا تستطيع هذه الاستفادة من ذلك في شيء. فأين الشعب في كل ذلك؟ هل يستشار ولو شكلياً؟ إن الاتحاد المتوسطي، إذا ما أقيم، يؤلف تغييرات كبرى في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية للبلدان الثالثية الداخلة فيه. قبل كل شيء تتحول الإدارة الإسرائيلية، من إدارة معادية توسعية في المنطقة العربية إلى إدارة عضو كبير مدلل في الاتحاد، وتحصل على الاحترام والتطبيع من دون أي حل لا لمشكلة الأراضي العربية المحتلة، ولا لمشكلة الإبادة الفلسطينية. أيضاً يأخذ النظام العراقي الممثل للاحتلال الأمريكي شرعية كاملة في الاتحاد من دون أي حل لأزمة الشعب العراقي، إبادته وتهجيره وإفقاره وتجزئته وتجزئة البلد. وعلى الصعيد الاقتصادي تخضع جميع اقتصادات الدول الداخلة في الاتحاد لوصفات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وأيضاً لإشراف واستثمار الاحتكارات الدولية. أما إفقار وتهميش الشعوب في البلدان الداخلة في الاتحاد فسوف تتم سيطرة جمعية عليها: أي إذا انفجرت احتجاجات جوع في أحد بلدان الاتحاد، فسوف تقمع هذه، لا بقوات البلد الذي ينفجر فيه الاحتجاج فقط، وإنما أيضاً بقوات خارجية ينشئها الاتحاد لوظيفة القمع.
والأنظمة ذاتها لن تسلم، فإذا «عصلج» (أي استعصى) أحدها لسبب أو لآخر، وطني أو غير وطني، منطقي أو غير منطقي، فإن الاتحاد يقوم بتغييره بالوسائل العديدة المتوفرة لديه، بتفعيل معارضة من صنعه، أو باغتيال رموزه، أو بحصاره اقتصادياً، أو...إلخ. والأنظمة عدا ذلك لن يكون لديها قرار سياسي أو اقتصادي خاص بها، ولو كان ذلك يمس مسألة حيوية بالنسبة لها أو لشعبها، ربما الأوضاع الداخلية الثالثية بعد الاتحاد، إذا أقيم، لن تكون أسوأ منها قبل الاتحاد، فالإدارة الإسرائيلية هي على صلات طيبة وسيادتها معلنة أو غير معلنة مع أغلب بلدان الاتحاد الموعود، والسيادة في تلك البلدان هي أكثر من هشة، سواء فيما يتعلق بالقرار السياسي أو بالقرار الاقتصادي، والشعوب الثالثية في الاتحاد المنتظر هي أكثر من محرومة عموماً، الفقر والتهميش منتشران لديها. وإضافة إلى الحرمان من الخدمات والحاجات ذات الضرورة الأولية، هي محرومة عموماً من حقوقها المدنية والسياسية، تُقمع، ولا يحق لها الاحتجاج، وتُظلم ولا يحق لها الشكوى، أو لا فائدة لديها من الشكوى، والنظام السياسي، الذي يحكمها لا علاقة لها به، فلا هي تنتخبه، وليس لديها من الوسائل ما تستطيع بها من التأثير عليه، لذلك كان الأمر سيان قبل احتلال العراق تجاه الاحتلال، فالنظام العراقي السابق لم يكن في نظر قطاعات واسعة من الشعب أفضل من الاحتلال: إذا تركنا العملاء المأجورين، فبالنسبة للعراقي العادي، لم يكن ينتظر من الاحتلال السمن والعسل، ولكن لن يكون في تقديره أسوأ من النظام القائم.
هذا الوقع يضعف الحس الوطني في البلد الثالثي، ويجري تفعيل ذلك من الاستعمار وعملائه المنتشرين في إدارات الدول، وفي المراكز الإعلامية،وفي التشكيلات الطائفية والقبلية. ومن هنا لا فرق بالنسبة لمواطن عادي ثالثي من قيام الاتحاد أو عدمه، إذا لن يكون الوضع في تقديره في ظل الاتحاد أسوأ منه في غياب الاتحاد، وهناك دور للاتحاد، لم نذكره حتى الآن هو ترويض الإدارات الثالثية الداخلة فيه طبعاً هي مروضة، ولكن ليس بم ا فيه الكفاية.
وإذا قام الاتحاد، فلن يطول أمده، لأن مشروع الشرق الأوسط الجديد الأمريكي سوف يقلب الأوضاع القائمة والمستجدة رأساً على عقب، وثمة احتمالان، إما أن تحسم الإدارة الأمريكية الأمر، وتحجم في تغير المنطقة، وحينئذ سيتغير الاتحاد أيضاً، أو سيفشل ويفشل الاتحاد أيضاً. والكارثة كبيرة في كل الحالات.