طابور كلينتون - غيتس والسياسة الخارجية الأمريكية
أشيع في العاصمة واشنطن، قبل فترة، خبر احتمال استقالة هيلاري كلينتون من منصبها في وزارة الخارجية. ورغم أن الناطق باسم البيت الأبيض سارع إلى التعليق على الشائعات بالقول إن الرئيس مرتاح لوجود هيلاري كلينتون في منصبها الحالي، إلا أن المراقبين أخذوا فرصتهم لإعادة النظر بدورها في رسم السياسة الخارجية الأمريكية، وكذلك موقعها ضمن فريق أوباما.
يرتبط مصطلح «السياسة الخارجية»، في معظم بلدان العالم، بمفهوم الدبلوماسية، إلى حد كبير. لذلك توكل مهمة رسم السياسة الخارجية للوزارة المختصة بالعلاقات الخارجية. أما في الولايات المتحدة، فقد باتت «السياسة الخارجية» مرادفاً لـ«الأمن القومي» في معظم الأحيان، نظراً لإصرارها على استخدام القوة العسكرية لتحقيق أهداف سياستها الخارجية. مما أدى إلى إحالة تنسيق السياسة الأمريكية الخارجية إلى مجلس الأمن القومي، حيث يلعب مستشار من داخل الإدارة، ويحظى بثقة الرئيس، دور «الظهير الربعي» في شؤون السياسة الخارجية الأمريكية (الظهير الربعي يحتل موقعاً في الخلف ويوجه هجمات فريقه، في كرة القدم الأمريكية. م.م). لعب هذا الدور في إدارة نيكسون، هنري كيسنجر، مستشار الأمن القومي، قبل توليه مهام وزارة الخارجية. كما لعبه زبيغنيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي، حاجباً دور سايروس فانس، وزير خارجية إدارة كارتر. وخلال فترة جورج بوش الرئاسية الأولى كانت لنائبه ديك تشيني سطوة استثنائية في مجال العلاقات الخارجية، لم يستطع مجاراتها، أمام الرئيس، لا وزير الخارجية كولن باول، ولا مستشارة الأمن القومي كوندوليزا رايس.
لكن حال إدارة أوباما مختلفة. بدايةً، لم يكن تعيين كلينتون وزيراً للخارجية قرار أوباما، بل فُرض عليه. فأوباما وكلينتون خاضا منافسة شديدة على تمثيل الحزب الديموقراطي في انتخابات الرئاسة عام 2008، اتخذت، في مرحلة منها، طابعاً شخصياً ذهب بباقي الود بينهما. وهذا كان واحداً من عدة أسباب حملت أوباما على رفض تعيينها نائباً له رغم ضغوط قيادات الحزب الديموقراطي. (السبب الآخر هو رفض ميشيل، زوجة الرئيس، القاطع لرؤية هيلاري في البيت الأبيض). ثم قيل للرئيس المنتخب بأن عليه عرض موقع مناسب لكلينتون، تجنباً لحدوث صدع كبير في صفوف الحزب. فكان الخيار الطبيعي هو منصب وزير الخارجية، الذي يُعتبر الرابع تراتبياً (بعد الرئيس، نائب الرئيس، المتحدث الرسمي باسم البيت الأبيض).
ومع ذلك، يؤكد المقربون منها أنه عندما عُرض عليها المنصب في خريف عام 2008، تعهد أوباما بأنها ستلعب دوراً محورياً في رسم السياسة الخارجية للولايات المتحدة ، تبعاً لتأكيده رغبته الاهتمام بالاقتصاد المتداعي، وحاجته إلى شخص من عيار كلينتون لتمثيل الولايات المتحدة في العالم. لكن سرعان ما تبين أنه، على النقيض من أسلافه، فضّل الاستئثار باتخاذ القرارات الخارجية («في إدارة أوباما، هنري كيسنجر هو أوباما ذاته»، حسب تعبير أحد مساعديه)، ولم يبق لكلينتون ما تفعله سوى تنفيذ الأوامر المنزلة عليها من البيت الأبيض.
ورغم تعيينه لها وزيراً للخارجية، واصل أوباما اعتماده على دائرة محدودة من المستشارين الخاصين. أكثرهم نفوذاً وتأثيراً، وأقلهم شهرة، هما «دينيس ماك-دونوف» و«بن رودس». كلاهما عمل مع أوباما منذ كان سيناتوراً. ثم استدعاهما إلى واشنطن وعينهما في مراكز قيادية وسيطة، «ماك-دونوف» كمدير لطاقم مجلس الأمن القومي، و«رودس» نائباً ثالثاً للجنرال جيمس جونز، مستشار الرئيس لشؤون الأمن القومي. وكلاهما جاءا إلى أوباما من بين أفراد طاقم عضو الكونغرس السابق «لي هاميلتون» المشهور في واشنطن بأنه أبرز أنصار المقاربة البراغماتية (كنقيض للإيديولوجية) في مجال العلاقات الدولية.
بالمقابل، اشتهرت كلينتون بكونها من أنصار المقاربة «العضلية» في ميدان السياسة الخارجية، يسرها أن تتبعها القوات المسلحة حيثما حلّت. وقد ورثت هذه الطريقة عن معلمتها وصديقتها «مادلين أولبرايت»، وزيرة الخارجية السابقة في إدارة زوجها بيل. ولا تفوت فرصة لعرض أوراق اعتمادها الصقرية. وهي الوحيدة، من بين الأرفع مرتبة في هذه الإدارة، التي تستحضر بانتظام ذِكر موضوعة «انتهاك حقوق الإنسان» في بلدان العالم الأخرى. وتحت إلحاحها استقبل أوباما الدالاي لاما في البيت الأبيض، رغم اعتراض بكين الشديد.
كلينتون لديها حليف واحد في الحكومة هو روبرت غيتس، وزير الدفاع الحالي والمدير السابق لوكالة المخابرات المركزية، الذي ورثه أوباما عن الإدارة السابقة. تجسد «صداقتهما» مثالاً كلاسيكياً عن تعايش الأضداد السياسية: كلينتون تساعد غيتس الجمهوري على تجاوز إحساسه بالعزلة وسط إدارة ديموقراطية، مثلما يعينها غيتس على شد الحبل لناحيتها، في صراعها مع البيت الأبيض، إلى جانب اشتراكهما بالنزعة العدوانية ذاتها في السياسة الخارجية. ومع مرور الوقت، تطور طابور كلينتون-غيتس وغدا مركز نفوذ قوي يقف في وجه آراء الرئيس ومستشاريه. (بينما يتوضع في ركن ما «وسطي» العضوان المؤثران في فريق أوباما للسياسة الخارجية، نائبه جو بايدن، ومستشاره لشؤون الأمن القومي جونز).
ظهر التضاد إلى العلن في الخريف الفائت عندما طلب أوباما من فريقه للسياسة الخارجية وضع إستراتيجية جديدة لأفغانستان. فأعدّ، حينها، الجنرال ماك-كريستال القائد السابق للقوات في أفغانستان، مذكرة يطلب فيها تعزيز القوات بثمانين ألف جندي إضافيين، فأيده غيتس بقوة، ووقفت إلى جانبهما كلينتون رغم أن موفدها المعين سفيراً في أفغانستان، كارل إيكنبري (الجنرال السابق المقاتل في أفغانستان) لم يوافق على هذه الزيادة الضخمة. وفي النهاية قرر أوباما تعزيز القوات بثلاثين ألف جندي.
وكان ذلك أول انتصار جدي للمترادفين كلينتون-غيتس، ولكن ليس الوحيد. فبدعم من غيتس، سعت كلينتون لاستصدار قرار فرض عقوبات جديدة ضد إيران من مجلس الأمن الدولي، رغم أن أوباما حاول اجتذاب طهران نحو إجراء محادثات ثنائية. ومؤخراً، في منتصف أيار، اتخذ البيت الأبيض قرار تكثيف جهود تحديث ترسانة أسلحة الولايات المتحدة النووية، بضغط من البنتاغون، بقيادة غيتس، الذي رافقته كلينتون عند ظهوره في جلسة استماع مجلس الشيوخ لمناقشة المسألة.
ومع تعثر أجندة أوباما الداخلية، أكثر فأكثر، بات طابور كلينتون-غيتس يصنع أهم قرارات السياسة الخارجية. وبالنتيجة، تقلصت الفوارق بين سياسة أوباما الخارجية وسياسة سلفه، جورج بوش، ويقول بعضهم إنها غير موجودة.
يشاع حالياً أن غيتس سوف يتقاعد قريباً، لتخلِفه كلينتون. ولا شك أن المجمع الصناعي العسكري، الممثل بغيتس حالياً، متحمس لدعم هذا التغيير، كما يبدو أن كلينتون من جهتها معجبة بالفكرة، ويجس أصدقاؤها نبض واشنطن.
ولم لا؟ أول امرأة في تاريخ الولايات المتحدة تتولى منصب وزير الدفاع.
*باحث في مؤسسة الثقافة الإستراتيجية/ روسيا.