ليس لمصر وشعبها الكادح من حليف سوى الجيش
المصير غامض، والمستقبل ملفوف بالضباب، وكل الاحتمالات قائمة ومفتوحة. هكذا هي الحال في مصر، حيث يتوقف كل شيء على تطور الصراع الجاري.
ما كانت الحال سابقاً فإن الجانب الأكبر من نخبة التكيف المصرية (الطبقية– السياسية) لا يزال مهيمناً. فقط أقصي العديد من أركان الأقلية التي كانت تستأثر بالسلطة. وقفزت أغلبية النخبة التي كانت تستجدي نصيباً في الكعكة للاستئثار بها كاملة. وهو ما تجلى في الائتلاف الذيشكلته الأحزاب القديمة والجديدة على مختلف توجهاتها (إسلاميون وعلمانيون وليبراليون ويساريون وقوميون) لسبب جوهري هو الاتفاق على توزيع نصيب كل طرف في الانتخابات القادمة (رغم بعض التجاذبات فيما بينهم) وهو ما يعني دفن الثورة التي لم تحقق انتصارها بعد. من هؤلاء من كانوا في أوج المواجهة في بداية الثورة يتحصنون بخنادقهم، وحينما لاحت بدايات النصر خرجوا ليتقدموا الصفوف، مصطحبين معهم بعد انجلاء أحد أهم المشاهد (خلع الرئيس السابق) قواهم الاحتياطية التي صنعها النظام القديم ليشيعوا مناخ ارهاب وتكفيرلا مثيل له. حينما لاحت بدايات النصر خرج أيضاً ليتقدم الصفوف كل من مارس النهب والسلب من قمم الطبقة السائدة رافعين راية الليبرالية الاقتصادية أساساً التي يدعون زيفا أنها العصا السحرية لحل مشكلات المجتمع مصطحبين معهم الوافدين من الخارج الغربي بأجنداتهم المفضية إلىالجحيم، وفي أثرهم سارت القوى الذيلية للنظام القديم. انقض كل هؤلاء ليقطفوا الثمار ويقتسموا الغنائم وليصادروا على سير الثورة قدماً. على زاوية ضيقة من المشهد تقف حائرة قوى شاركت منذ اللحظات الأولى للانفجار الثوري ولكنها أقصيت عن قلب المشهد واقعياً. تتخبط بين اصلاحية لاتعكس الفعل الثوري وحجمه وأهدافه، وبين صوت يساري زاعق لكنه لا يفضي سوى إلى العدمية. ارتباك ومراوحة بينالاستراتيجية والتكتيك، وبين الإصلاحية والعدمية. على زاوية أكثر ضيقا تقف الدوائر الضيقة التي مهدت للثورة طوال سنوات بفاعليات بذلت فيها أقصى الطاقة، وشاركت في الفعل الثوري ولا تزال بكل ما تملك من جهد وتصميم على السير بها إلى غاياتها، منحازة بالمطلق إلى جماهير الثورة من كادحي الوطن. الذين صنعوا مشهداًفريداً في تاريخ الثورات بملايينهم التي تجاوزت خمسة عشر مليوناً على امتداد الوطن كله، وضخت قوة دفع ثوري غير مسبوقة. ربما لم تحدث ثورة في التاريخ بذلك الحجم من الفعل الثوري الجماهيري وذلك الاتساع الهائل في المشاركة الشعبية. واستشعرت هذه الملايين أن فعلها الثوري قد جعلها قريبة وملامسة للثمرة المبتغاة. لكنها للأسف، وبعد مرور شهور خمسة لم تشهد ولم تلمس، وربما لم تعد تتوقعأو حتى تحلم بأية ثمرة بعد تضحيات وشهداء ودماء وطول انتظار. لم يتغير شيء ذو قيمة على الأرض. ونكبنا بحكومة هي استمرار للنظام القديم. تتكون فيما عدا وزير أو اثنين من الصفوف الثانية والثالثة للجنة سياسات ابن الرئيس المخلوع. ورئيس لا يمتلك أية كفاءات ولا يصلح بالمطلق لشغل هذا المنصب، وان كان يتمتع بقدرة عالية علىانتهاز الفرص. فقد اقتصرت مشاركته على مظاهرة أساتذة الجامعات التي أعد لها أساتذة آخرون في أوج الثورة. لكنه أحيط في هذا اليوم بهالة واسعة من دعاية طواغيت المال، واحتضنه رموز من الاخوان المسلمين في الميدان رغم أنهم لم يشاركوا في الوجود بميدان التحرير ذلكاليوم. وتربع هذا الشخص المجهول على مقعد رئيس الوزراء مدعياً أنه يستمد شرعيته الموهومة من جماهير الثورة في زخم المطلب الثوري بإسقاط حكومة أحمد شفيق الذي عينها مبارك قبل خلعه. هذه الحكومة ورئيسها هي حكومة القوى المضادة للثورة (ربما باستثناء وزير أو اثنين). هي حكومة الاقتصاد الحر الذي أوصل البلاد إلى أزمتها الشاملة، وصاحبته خيانات كامب ديفيد والتبعية للولايات المتحدة الأمريكية. مثلما صاحبه الفساد الذي لا نظير له، وأيضاً الاستبداد حفاظاًعلى اغتصاب الثروة والسلطة. من النماذج المفجعة لممارسات هذه الحكومة موقفها إزاء مطالبة أحد الوزراء بفرض ضريبة بنسبة %5 على الأرباح الرأسمالية التي تجاوز 5 ملايين جنيه في العام. هاج طواغيت المال، واضطر الوزير إلى تقرير أن تفرض الضريبة على الأرباح التي تجاوز 10 ملايين جنيه فيالعام بدلاً من 5 ملايين، واعترض طواغيت المال، وأغلق الموضوع برمته، خضوعا ذليلاً أمام اعتراض مصاصي دماء الشعب. فما الذي تغير إذاً تحقيقاً لمطالب جماهير الثورة؟ لم يتغير سوى: تكريس الظلم الاجتماعي والنهب الرأسمالي وإفقار الغالبية الساحقة من الشعب. زيادات هائلة في الأسعار دون أية رقابة أو ضوابط على الأسواق. وانحياز مطلق لطواغيت المال، وإغراق في تبني سياسات المؤسسات المالية الدولية. تزايد في تدهور الأمن، وخضوع لعناد وتراخي غالبية ضباط الشرطة، والاحتفاظ بمن قتلوا الثوار في مواقعهم حتى الآن، بل وترقية بعضهم. بروز نزعات تفتيت التنظيم النقابي للطبقة العاملة وتشجيع وزير القوى العاملة لهذا الأمر. بما يفتح المجال أمام تفتيت النقابات المهنية تحت شعارات الحرية والديمقراطية الزائفة. نمو سرطاني للاختراق الأجنبي. وحسب اعتراف السفيرة الأمريكية المرشحة لشغل المنصب في مصر، وذلك بجلسة مجلس الشيوخ الأمريكي، بأن منظمات مدنية مصرية تلقت من أجهزة أمريكية ما يقارب ربع مليار جنيه مصري خلال أربعة أشهر، وأن 600 منظمة مصرية تعملعلى الأجندة الليبرالية تقدمت إلى أجهزة أمريكية بطلبات للحصول على منح مالية. وكذا ما صرح به مدير مركز المعلومات الألماني بالقاهرة في ذات الوقت من أن الحكومة الألمانية سوف توفر 150 مليون يورو خلال عام ونصف من أجل الاصلاحات الليبرالية في مصر، إضافة إلىعواصم أوربية أخرى تنشط على هذا الصعيد. ولذا تتوالد وستتوالد منظمات المجتمع المدني بشكل سرطاني لتشكل طابوراً خامساً وجيشاً هائلاً من حملة أجندة الليبرالية الجديدة والتبعية والتطبيع مع العدو الصهيوني، وما خفي كان أعظم. نمو سريع لإعلام مرئي ومسموع ومقروء يزيف وعي الجماهير ويشيع الفتنة والتعصب والسطحية. خروج واسع لقوى سلفية تعد الناس بالراحة الأبدية في السماء بديلاً عن العدل الاجتماعي والتحرر الوطني والديمقراطية على الأرض، وتطرح برنامجاً مدته عام لتنمية أعداد المنقبات بمقدار مليون منقبة، والملتحون بمقدار مليون ملتح، بدلاً من تنمية الاقتصاد والثقافة وروحمقاومة العدو الصهيوني والامبريالية الأمريكية. طرفان في مصر الآن يشكلان المشهد الراهن. طرف تمثله النخبة الطبقية– السياسية (نخبة التكيف) القديمة، مسلحين بقوة المال والاعلام وقوى دولية وإقليمية. أما الطرف الآخر فتمثله الملايين من قوى الفعل الثوري، كادحي مصر وثوارها. طرفان بينهما تناقض لا يمكن حله. وفي الظروف الدقيقة والمعقدة ينفتح الطريق لأكثر من احتمال، ويقفز إلى الصدارة أحد احتمالين: غضب مكتوم يتحول إلى يأس، ثم إلى عنف فردي وجماعي، وإلى حالة من التوحش في المجتمع، بما يهدد الكيان الوطني بالدمار. أو إلى طريق آخر يسوق إليه اليأس أيضاً، هو سلفية وانعزال يعيدنا إلى عصر ما قبل الدولة. لتجاوز الاحتمالين المدمرين، فإن الأمر يتطلب تخطي حالة الحصار المفروضة على الثورة وعملية السطو عليها. وهو ما يطرح خياراً وحيداً يتجسد كحتمية. إنه «ليس لمصر وشعبها الكادح من حليف سوى الجيش».
25 يونيو 2011 ■■
|