فرنسا: انقسام حيال معاهدة الميزانية الأوروبية
تشهد فرنسا نقاشاً محتدماً حيال «معاهدة استقرار الميزانية الأوروبية»، المرتقب تصديق البرلمان عليها يوم الثلاثاء المقبل. وبينما دافعت الحكومة عنها، رفضت أحزاب يسارية السير بها على عكس المعارضة اليمينية
يواجه الائتلاف اليساري الحاكم في فرنسا، أسبوعاً حافلاً تتعرض خلاله الحكومة الاشتراكية لأكبر تحدٍّ سياسي واجتماعي لها، منذ وصول الرئيس فرنسوا هولاند إلى الحكم. ويتمثل التحدي في التصديق على «معاهدة استقرار الميزانية الأوروبية»، بعدما أثار النقاش البرلماني في هذه المعاهدة، الذي افتُتح أول من أمس ويستمر إلى الثلاثاء المقبل، تجاذباً سياسياً واجتماعياً كبيراً.
ورافقت هذا النقاش موجة من التظاهرات الإحتجاجية العارمة افتتحها، الأحد الماضي، زعيم «جبهة اليسار»، جان لوك ميلانشون، باستعراض في شوارع باريس شارك فيه 80 ألف متظاهر، في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ حكم اليسار في فرنسا. ولم يسبق أن واجهت حكومة اشتراكية تظاهرة بهذا الحجم، من تنظيم قوى يسارية يفترض أن تكون حليفة لها. ويُرتقب أن يشهد الأحد المقبل تظاهرات مماثلة تنظمها القوى النقابية، وتحديداً نقابات الشركات الصغيرة والمتوسطة، التي تعد الأكثر تضرراً من الإملاءات، التي تتضمنها المعاهدة الأوروبية في ما يتعلق بالتقشف وضبط الإنفاق العام.
على الصعيد السياسي، أدت التجاذبات بشأن معاهدة الميزانية الأوروبية، إلى قلب الموازين التقليدية للصراع بين اليسار واليمين في فرنسا. فالمعارضة اليمينية أعلنت أنها ستقترع بالإجماع على هذه المعاهدة، باعتبار أن الرئيس السابق نيكولا ساركوزي كان «بمثابة مايسترو هذا المشروع الهادف إلى تحصين منطقة اليورو ضد الهزات الناجمة عن الأزمة المالية وعن عولمة الاقتصاد». ولم يفوّت الأمين العام للحزب الساركوزي سابقاً، جان فرانسوا كوبي، الفرصة للتذكير بأن «نيكولا ساركوزي دافع عن هذه المعاهدة وأسهم في بلورتها، فيما وعد فرانسوا هولاند في حملته الانتخابية بتعديلها، لكنه لم ينجح في تغيير فاصلة واحدة منها».
هذا التصريح أثار حفيظة رئيس الحكومة، جان مارك آيرولت، الذي رد مؤكداً أن «اليمين يعتمد تزوير الحقائق، لأغراض حزبية داخلية». ووصف الأمر بأنه «لا ينمّ عن روح المسؤولية، ولا سيما حين يتعلق الأمر بقضية جوهرية وذات بعد استراتيجي بالنسبة إلى مستقبل بلادنا ومستقبل الاتحاد الأوروبي كاملاً».
وحيال ترويج المعارضة أن هولاند وحكومته يدافعان عن مشروع يميني موروث عن العهد الساركوزي، اضطر آيرولت إلى الظهور في نشرة الأخبار الرئيسية على القناة الفرنسية الأولى، للرد على مزاعم المعارضة بأن هولاند لم يف بوعوده الانتخابية، ولم ينجح في إقناع الحلفاء الأوروبيين بتعديل معاهدة الميزانية لتضمينها بعداً اجتماعياً لحماية مناصب الشغل ودعم النمو الاقتصادي. وذكّر آيرولت بأن هولاند نجح في إقناع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وبقية قادة الاتحاد الأوروبي، بإضافة «ملحق اجتماعي» إلى معاهدة استقرار الميزانية سُمي «ميثاق النمو». وينص الميثاق على إنشاء صندوق أوروبي بقيمة 120 مليار يورو، لدعم الاستثمار، بهدف إعادة تدوير الماكينة الإقتصادية واسترجاع النمو. ونص الميثاق أيضاً على منح البنك المركزي الأوروبي صلاحيات أوسع في ضبط المضاربات المالية والرقابة على البنوك، فضلاً عن تعميم الضريبة على المعاملات المالية لتشمل تدريجاً كل دول الاتحاد الأوروبي، بعد أن كانت فرنسا قد بادرت بسنّ هذه الضريبة أحادياً، في نهاية السنة الماضية.
وأوضح أحدث استطلاع للرأي نشر أمس أن الحملة التي بدأها آيرولت، وواصلها من بعده عدد بارز من وزرائه، من أجل إبراز أهمية «ميثاق النمو» في منح بعد اجتماعي لمعاهدة استقرار الميزانية الأوروبية، والتذكير بردود الفعل الإيجابية التي أفرزها ذلك في كامل منطقة اليورو مطلع الصيف الماضي، نجحت في إقناع قطاع واسع من الرأي العام الفرنسي. وحسب الاستطلاع، فإن 64 في المئة من الفرنسيين قالوا إنهم سيصوّتون بنعم على معاهدة استقرار الميزانية لو طُرحت للاستفتاء الشعبي. الأمر الذي اعتبرته الحكومة الاشتراكية مؤشراً إيجابياً بالغ الأهمية، ولا سيما أن الفرنسيين كانوا قد صوّتوا بأغلبية واسعة ضد الدستور الأوروبي، عام 2005، بسبب الإملاءات الاقتصادية المتعلقة بضبط الإنفاق العام.
والمفارقة أن الحكومة اليسارية، بالرغم من ضمانها تأييد غالبية الرأي العام، لم تنجح في استمالة الأصوات المعارضة للمعاهدة الأوروبية في صفوف الكتلة البرلمانية الاشتراكية. وكان الاشتراكيون قد شهدوا انقساماً داخلياً كبيراً، غداة الإستفتاء على الدستور الأوروبي عام 2005. وأدى ذلك إلى انشقاق الجناح اليساري للحزب، بزعامة ميلانشون، وتحالفه مع الحزب الشيوعي لتأسيس «جبهة اليسار». ولا يزال 35 نائباً اشتراكياً (من مجموع 297) متمسكين برفض الإملاءات التقشفية الأوروبية. ويتوقع أن يصوّت 20 منهم ضد معاهدة استقرار الميزانية، بينما نجحت مساعي الحكومة في إقناع 15 آخرين بالإكتفاء بالإمتناع عن التصويت.
ورغم أن نتيجة الإقتراع على المعاهدة، محسومة سلفاً، إلا أن مستشاري هولاند يخشون أن تؤدي هذه الأصوات الاشتراكية المشاكسة، والتظاهرات النقابية المتوقعة الأحد، إلى تصدع الإئتلاف اليساري، حيث يخشى أن يقوي البرلمانيون الاشتراكيون العشرون حجة المعارضة اليسارية للمعاهدة، والمتمثلة في نواب الخُضر (17 صوتاً) واليسار الراديكالي (15 نائباً).
أما المعارضة اليمينية، فرغم تأييدها للمعاهدة، إلا أنها لم تفوت الفرصة لإبراز الحرج الذي يواجهه عدد بارز من أقطاب الحكومة الاشتراكية، وفي مقدمتهم وزير الخارجية، لوران فابيوس، ووزير الشؤون الأوروبية، برنار كازانوف، ووزير التعليم، فانوسون بيان، ووزير «التقويم المنتج» (إعادة بناء القطاع الصناعي) أرنو مونتبورغ. وكل هؤلاء كانوا في طليعة الحملة المعارضة للدستور الأوروبي، عام 2005، لكنهم مضطرون حالياً، بحجة «التضامن الحكومي»، إلى تأييد المعاهدة.
• نقلاً عن الأخبار اللبنانية