الثورة تشعل الوطن: إطلاق نفير الانضمام إلى احتجاجات «وول ستريت»
ما يحدث الآن في «وول ستريت» أمر غير عادي فعلاً! فعلى امتداد ما يزيد عن عشرة أيام، في حرم أكبر كاتدرائية للرأسمالية المعولمة، نجح المنبوذون بتحرير أرض من قبضة الحكام الماليين المطلقين وكتائب البوليس.
لقد خلقوا فرصة فريدة لتحويل مد وجزر التاريخ سيراً على خطا التحركات السلمية الكبرى، من الإضرابات الاعتصامية في فترة الثلاثينيات، مروراً باعتصامات الستينيات، وصولاً إلى الانتفاضات الديمقراطية الآخذة بالانتشار حالياً في العالم العربي وأوروبا.
وبينما يكبر «احتلال وول ستريت» وينمو، تبرز حاجته إلى تكاتف كل من فرح بجماهير مصر المجتمعين في ساحة التحرير هاتفين «كلنا ويسكنسون»، ومتضامنين مع الشعبين اليوناني والإسباني. فهذا الاحتجاج هو حركةُ كل من يحتاج لعمل أو بيت أو ضمان صحي، ولكل من فقد الأمل بالمستقبل.
لقد تعطل نظامنا على جميع الأصعدة، حيث أصبح 25 مليون أمريكي بلا عمل، وأكثر من 50 مليون إنسان بلا ضمان صحي. وبمقاييس الواقع، يغرق حوالي مائة مليون أمريكي في الفقر. ورغم ذلك يستمر تخفيض ضرائب القطط السمان التي تجني المليارات، فيما يتنافس السياسيون على تحميلنا أعباء التقشف!!
في لحظة ما، سواء احتشد في «وول ستريت» خمسة آلاف أو خمسون ألف إنسان، وهؤلاء سيجبرون السلطات على تقديم التنازلات. ولا أحد يستطيع التكهن بالأعداد اللازمة لذلك، ولا حتى بكيفية سير الأمور، ولكن تتجسد هنالك إمكانية واقعية لتجاوز العملية السياسية الفاسدة ولتحقيق مجتمع قائم على أساس تلبية حاجات الإنسان لا على أساس تعبئة صناديق رؤوس الأموال بالأرباح.
وفوق كل اعتبار، من ذا الذي كان يتخيل قبل عام من الآن أن التونسيين والمصريين سيطيحون بطغاة بلادهم؟
في حديقة الحرية، عصب حياة الاحتلال، يجتمع يومياً أكثر من خمسمائة إنسان (والعدد في تزايد) للنقاش، ولبحث وتنظيم ما يجب فعله إزاء نظامنا الفاشل الذي سمح لأربعمائة ثري أمريكي بامتلاك ثروة تناهز ما يملكه مائة وثمانون مليون أمريكي يرزحون في القاع.
ومن المدهش كيف نبت مهرجان الديموقراطية ذاتي التنظيم فوق تراب سادة الكوكب الذين يرقص على نغم أوتارهم كلا الحزبين السياسيين وكافة وسائل الإعلام الأمريكية. وكذلك كان مثيراً للدهشة أن قسم شرطة نيويورك الذي نشر مئات من عناصر الشرطة لمحاصرة المحتجين وترهيبهم، كان قادراً على اعتقالهم جميعاً وإفراغ بلازا الحرية خلال بضعة دقائق، ولكنه لم يفعل.
لأن الاعتداء على الجماهير المسالمة المحتشدة في ساحة عامة للمطالبة بديموقراطية حقيقية (اقتصادية لا مجرد ديموقراطية سياسية)، سيذكـّر العالم كله بوحشية تعامل المستبدين مع شعوبهم المطالبة بالعدالة قبل أن يجرفهم الربيع العربي. وقد ارتدت مباشرة نتائج استخدام العنف على الدولة إثر مهاجمة الشرطة مظاهرة السبت الفائت التي انطلقت من حديقة الحرية وتضخم حجمها واستحوذت على اهتمام الإعلام بها.
وهكذا، نجح احتلال وول ستريت فعلياً بفضح إفلاس القوى المهيمنة: اقتصاداً وسياسة وإعلاماً وأمناً. وبإظهار عجزهم عن تقديم أي شيء إيجابي للإنسانية، ليس بسبب ما لم يقدموه للجنوب فقط، بل كذلك بسبب أن سعي تلك القوى لتحقيق أرباح سرمدية يعمق البؤس فارضاً آلاف الإجراءات التقشفية على شعوبهم.
وحتى الحلول التي يطرحونها ليست أكثر من مزاح وحشي، إذ يخبروننا بأن ما يسمى «قانون بافيت» (Buffett Rule) سيكون مؤلماً لدرجة التضحية بمخزون الكافيار في سقيفة الأثرياء، نتيجة زيادة الضرائب المقترحة!! في الوقت ذاته يتعين علينا نحن بقية الناس التضحية بالرعاية الصحية والغذاء والتعليم والعمل وربما بأرواحنا لأجل إشباع نهم رأس المال.
ولهذا السبب ينضم مزيد من الناس لاحتلال وول ستريت. ليخبرونا عن بيوتهم التي خسروها بعمليات الإفلاس، وعن أشهر من آلام البطالة أو العمل بالحد الأدنى من الرواتب، عن ثقل أعباء ديون الدراسة، أو عن الكفاح من أجل البقاء دون رعاية صحية. جيل كامل من الأمريكيين يحيا بلا أفق أو أمل في ظل نظامٍ قيل لهم إنه جدير بالثقة، لكنه في الحقيقة لا يقدم لهم إلا «الرقص مع النجوم» أو ذر الرماد في العيون.
ورغم كل النعوت السلبية التي يوصف بها أبناء هذا الجيل، من كونهم نرجسيين لا مبالين طالحين، إلا أنهم يشقون لنا الدرب نحو مستقبل أفضل.
ولهذا السبب نحتاج جميعاً للانخراط فيهم. ليس فقط من خلال ضغط أيقونة «أعجبني» على «الفيسبوك»، أو توقيع عريضة منشورة على موقع ما، أو إعادة تحميل الصور على «تويتر»، بل بالنزول إلى الساحة ذاتها حيث الإمكانيات الكامنة كبيرة. صحيح أنها صرخة بعيدة عن ميدان التحرير وحتى عن ويسكنسون، لكنها تشكل الآن نواة ثورة بمقدورها هز بنية السلطة الأمريكية مثلما قلبت حال العالم العربي.
بدلاً عما يقارب ألفي شخص يشاركون في الاعتصام يجب أن يكون هناك عشرات آلاف المحتجين ضد القطط السمان الراكبة في السيارات الفارهة وتحتسي أغلى أنواع الشمبانيا على حساب الأموال المنهوبة من أموال التعويض عن خسائر الأزمة المالية بينما، يموت الأمريكيون في الشوارع، بكل ما تحمله الجملة من معنى!
لكي نكون منصفين، يبدو المشهد في ساحة الحرية فوضوياً وعشوائياًً، لكنه يتشكل كمختبر للإمكانيات والاحتمالات المفتوحة المجسدة لروعة الديموقراطية. فعلى النقيض من ثقافة العالم الأحادية، حيث تطوي الحياة السياسية صفحة كل أربعة أعوام، وتتحول الحياة الاجتماعية إلى حالة استهلاكية، وتنكمش الحياة الاقتصادية أكثر، يخلق احتلال وول ستريت خليطاً متنوعاً من الأفكار وأساليب التعبير والفنون.
وفيما يؤيد كثير من الناس احتلال الساحة إلا أنهم ما زالوا يترددون بالانضمام للحراك ويتسرعون بتوجيه النقد، بما يكفي لإدراك أن العقبة الأساسية أمام بناء حركة احتجاجية قوية ليست الشرطة أو رأس المال بقدر ما هو حالة يأسنا وهزلية حالنا. ولعل آراء أولئك الناس تأخذ ألوانها من مقالات صحيفة «نيويورك تايمز» التي تهزأ بالمتظاهرين وتسخر من رغباتهم وتطلعاتهم بكثير من النقد الخالي من أي معنى.
إنما ما الخطأ في ذلك؟ لن تنبت حركة مكتملة من العدم وحدها، لا بد من خلقها. ومن الذي يستطيع أن يحدد ما العمل بالضبط؟ لا يدور الأمر هنا عن الإطاحة بديكتاتور مستبد؛ بل يدور حديث بعض الناس عن إرادة الإطاحة بديكتاتورية الشركات العملاقة.
فيجري طرح الكثير من الأفكار المتطورة: إنهاء شخصنة الشركات، فرض الضرائب على مبيعات الأسهم والتبادلات المالية، تأميم البنوك، الرعاية الطبية للجميع، وظائف حكومية بتعويضات كاملة وصناديق تحفيز كينزية جدياً، رفع القيود المفروضة على تنظيم الحركة العمالية، السماح للمدن بتحويل المنازل المصادرة إلى مساكن شعبية.
ولكن كيف نتمكن من إبرام اتفاق واسع حول أي من هذه القضايا؟ إذا اكتفى المتظاهرون بالمجيء إلى الساحة مع مجموعة محددة مسبقاً، فمن الممكن أن يبقى الاتفاق على مطالب عليا محدوداً برغباتهم وإمكانياتهم فقط، أو يتوافقون على مطالب دنيا لا تختلف عن «قانون بافيت»، قابلة لأن يمتصها النظام الفاشل، ويتم بالتالي تقويض الحركة.
ولهذا يتعين بناء الحركة بالتوازي مع خوض النضال المشترك جنباً إلى جنب في النقاش وفي ممارسة الديموقراطية الجذرية فعلياً. تلك طريقتنا في إيجاد الحلول الإبداعية التي تستحق وصفها بالشرعية. وهو الأمر الجاري حدوثه الآن في وول ستريت. بالفكر النقدي والآراء والتضامن نغير العالم.
كم فرصة تسنح لك في الحياة لمشاهدة التاريخ مكشوفاً أمامك، لتشارك بفعالية في بناء مجتمع أفضل، لتجتمع مع آلاف الناس حيث تُمارس الديموقراطية الأصيلة واقعياً وليس وهمياً؟
لفترة طويلة من الزمن، تقيدت عقولنا بسلاسل الخوف والانقسام والعجز. الأمر الوحيد الذي تخشاه النخب كثيراً هو الصحوة، وها قد أتت لحظتها، وبمقدورنا التقاطها.