الضيق اليوناني حصاد البؤس الأوروبي
تتفاعل الأزمات التي تعاني منها الدول الأوروبية بتفاعل الأزمة الأم في البيت الأوروبي، والناتجة عن حجم التفاوت الاقتصادي بين دول الاتحاد الأوروبي الذي رُسمِت سياساته وتشكلت بنيته بما يتوافق ومصالح رأس المال المالي. تبعاً لذلك، برزت الانتخابات البرلمانية الأخيرة في اليونان، وتقدُّم حزب «سيريزا» فيها، ليفتح الباب أمام تساؤلات عديدة تتمحور حول معنى تقدم حزب يساري في بلدٍ أوروبي، ومستقبل اليونان في ظل الحديث عن تغيرات في العلاقة مع الاتحاد الأوروبي ذاته.
أحمد الرز، آلان كرد
انجلى غبار «المعركة الانتخابية» التي عاشتها اليونان على مدار الأسبوع الفائت، عن تقدمٍ واسع أحرزه تحالف «سيريزا»، ضاعف خلاله أعداد المقاعد البرلمانية المخصَّصة له من 79 مقعداً في الدورة السابقة، إلى 149 مقعداً نالها التحالف في الانتخابات الحالية. لتليه أحزاب «الديمقراطية الآن» 76 مقعداً، و«الفجر الذهبي» 17 مقعداً، و«To Potami» 17 مقعداً، والحزب الشيوعي اليوناني 15مقعداً، و«اليونان المستقلة» 13 مقعداً، وأخيراً «Pasok» 13 مقعداً.
لماذا اتجه اليونانيون يساراً؟
انضمت اليونان إلى منطقة اليورو «الاتحاد الأوروبي» بداية عام 2001. ومنذ ذلك الحين، ازداد انخراط حكومات البلد في منظومة الاتحاد وسياسته الاقتصادية المعتمدة على نهب شعوب الاتحاد، وبلدان الجنوب على وجه الخصوص، لصالح رؤوس الأموال الكبرى في أوروبا والعالم. وفي نيسان 2010، وبعدما عصفت أزمة الدين الحكومي بالاقتصاد اليوناني، طلبت الحكومة اليونانية من الاتحاد الأوروبي و«صندوق النقد الدولي» تفعيل «خطة إنقاذ» تتضمن قروضاً «لمساعدة اليونان على تجنب خطر الإفلاس والتخلف عن السداد»، في وقتها بدأت بوادر الطرح القائل بخروج اليونان من المنطقة الاقتصادية الأوروبية، إلا أن أوروبا كانت قد ضغطت على اليونان في اتجاه تنفيذ «إصلاحات اقتصادية» ليبرالية، عمادها إجراءات تقشف تهدف إلى خفض العجز بالموازنة العامة، على حساب مستوى معيشة قطاعات واسعة من السكان.
وكانت هذه الأزمة تختمر ببطء بين عامي 2001- 2008، حتى انفجرت بشكلٍ حاد أواخر عام 2008، تحركت على إثرها الاحتجاجات والإضرابات العمالية متواترة، وبرزت قوى تمثِّل القطاعات الشعبية المتضررة من سياسات التقشف وقضم المكاسب الاجتماعية- مثل جبهة النضال العمالية «بامة»- وهو تحالف الحزب الشيوعي اليوناني والنقابات العمالية ونقابات الموظفين بالإضافة إلى نقابات الطلاب والعمال الزراعيين وحركات السلام المناهضة للحرب الإمبريالية وروابط ربات البيوت والحركات النسائية.
أدت سياسة التقشف الصارمة التي فرضتها الحكومة، بضغوط من الترويكا الدولية «الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي والبنك المركزي الأوروبي» والدائنين، في تسبب حالة من ضيق المعيشة لدى قطاع عريض من الشعب اليوناني وأدى إلى تراجع في الأجور ومعاشات التقاعد وزيادة الأسعار والمزيد من الخصخصة للتعليم والصحة وارتفاع الضرائب ووصلت ديون اليونان خلال الربع الثالث من العام الماضي 2014 إلى 315.5 مليار يورو، ما يشير إلى أن الديون المتراكمة على عاتق اليونان ما تزال مرتفعة، أي أن برنامج «الإصلاح الاقتصادي» قد فاقم الأزمة أكثر، وأرسى نسبة بطالة تتجاوز الـ25% من قوة العمل، وتتجاوز الـ50% في صفوف الشباب. وهو ما وضع الأساس لتوجه اليونانيين نحو أحزاب تطرح العلاقة مع الاتحاد الأوروبي على بساط البحث.
المنظومة تعاني «البدائل»
لم يطرح تحالف «سيريزا»، في أيٍّ من وثائقه وبرامجه واللقاءات الإعلامية لقادته، فكرة خروج اليونان من الاتحاد الأوروبي. سقف ما طرحه التحالف كان التفاوض مع الاتحاد على إعادة هيكلة الديون. غير أن الحملة الإعلانية التي كلَّفت عشرات الآلاف من الدولارات، بحسب موقع «كورساريس» اليوناني، والحملات التي نظمتها وسائل إعلام غربية ومحلية يونانية لتصوير طروحات «سيريزا» وكأنها جازمة في الخروج من منظومة الاتحاد الأوروبي، قد ساعدت التحالف على تحقيق نسبة أصوات تتجاوز بكثير الحزب الشيوعي اليوناني والأحزاب الأخرى التي تطرح بالفعل موضوع الخروج من الاتحاد الأوروبي.
في هذا الجانب، يجدر التركيز على أن الميل العام لدى شعوب أوروبا هو للخلاص من الاتحاد الأوروبي وشروطه وقيوده. ويترجم التعامل مع هذه الحقيقة بصعود قوى اليمين والفاشية الجديدة في دول المركز الأوروبي وأوروبا الغربية، بمقابل صعود اليسار في الدول الأوروبية الجنوبية. بدورها، يبقى أمام منظومات النهب العالمية إمكانية التحكم إلى حدٍ ما بطبيعة اليسار الصاعد في دول الجنوب، بحيث «يستجاب» نظرياً لطموحات الشعوب وتطلعاته، وتُمنع في الوقت ذاته القوى السياسية الجذرية في نظرتها إلى الاتحاد الأوروبي من الصعود. ورغم أن ذلك لا يعني إطلاق حكم قطعي في تركيبة «سيريزا» ودوره، إلا أن مؤشرات عدة كانت قد خرجت عن التحالف في هذا السياق، ولم يكن آخرها إعلان «سيريزا» تحالفه مع الكتلة البرلمانية الممثلة عن حزب «اليونان المستقلة» اليميني، على حساب الحزب الشيوعي اليوناني والتجمعات اليسارية الأخرى.
إلى ذلك، يبرز السيناريو الذي قد يكون الأسوأ في حالة اليونان، وهو أن تكون هناك نوايا خفية لدى قوى رأس المال المالي والمستفيدة من بنية الاتحاد الأوروبي، للتأثير سلباً على «سيريزا» بهدف إرساء إدارة سيئة للأزمة الداخلية اليونانية، أو العمل في الطور الأعلى على تحقيق خروج غير آمن لليونان من الاتحاد الأوروبي، بما يفضي إلى تقديمها كنموذج كارثي عن الدول التي فكرت بالخروج من المنظومة، وهو ما يؤدي إلى «ردع» التيار الشعبي الأوروبي الناقم بمستويات متفاوتة على سياسات الاتحاد.
يجدر النظر إلى الحدث اليوناني من زاويتين، أولهما: هو الاتجاه الصاعد لدى الشعوب نحو كسر الطوق المفروض من قبل مؤسسات واتحادات الهيمنة الرأسمالية، وثانيهما: هو عمل منظومات النهب الرأسمالية وفق «قناعة» قسرية بتراجعها، والذي قد يكون أحد مدرجاتها هو البحث جدياً عن بدائل «ذات طابع يساري»، بعدما سقطت بدائلها (الدكتاتورية، العلمانية، المتدينة.. إلخ) والذي يوحدها الهوى الليبرالي في أكثر من بقعة حول العالم.
من هو سيريزا؟
«سيريزا» هو اختصار لـ «تحالف اليسار الراديكالي». وبدأ التحالف بالظهور كمجموعة من الأحزاب الصغيرة التي أصبحت منظمة واحدة بعد مؤتمرٍ جرى عقده في شهر 7/2013, بعدما ارتأت أنها باتت على وشك الوصول إلى السلطة.
أما الأحزاب المكونة للتحالف فهي «متنوعة»، وتشمل مجموعة من أحزاب اليسار الأوروبي، والماويين واليسار الديمقراطي الاجتماعي ونقابيين وحقوقيين، فضلاً عن أن التعداد الرئيسي للأحزاب المشكِّلة للتحالف هو من التروتسكيين.
كيف مات الحلم الأوروبي؟
دولةً وراء دولة
تحت هذا العنوان، كتبت صحيفة «تلغراف» البريطانية، في عددها الصادر بتاريخ 24/1/2015: «اجتاحت أوروبا موجة من خيبة الأمل الشعبية، والثورة ضد الأحزاب السياسية الرئيسية والاتحاد الأوروبي. في عام 2007، كانت الغالبية الأوروبية، التي تشكِّل52% من السكان، تثق بالاتحاد الأوروبي. أما الآن فقد انخفضت هذه الثقة لتصل إلى 35%.. في البداية، كان مذهب الشكّ البريطاني اتجاه أوروبا هو الاستثناء، وكان يعتبر التهديد الأكبر لمستقبل الاتحاد الأوروبي. لكن الآن، باتت هناك دولٌ أخرى تشكّل خطراً أكبر بكثير، بفضل السخط السياسي الذي خلقه الاتحاد الأوروبي».
وأفردت الصحيفة إحصاءات عدم الثقة بالاتحاد الأوروبي في البلدان الأوروبية، ليتبين أن 65% من الفنلنديين لا يثقون بالاتحاد الأوروبي، فيما وصلت النسبة في السويد إلى 60%، وفي الدانمارك 61%، وهولندا 63%، وإيرلندا 47%، وألمانيا 62%، وفرنسا 59%، وإسبانيا 69%، وإيطاليا 66%، فيما حصلت اليونان على المركز الأول من حيث عدم الثقة بالاتحاد الأوروبي بنسبة 77%.