العالم يتغير، ودورنا كبير
لوقتٍ طويل، بدت الإمبراطورية غير قابلةٍ للهزيمة. كانت الولايات المتحدة تستطيع على هواها وبأسخف الذرائع انتهاك شرعة الأمم المتحدة وتطبيق ضروب حصارٍ وحشية، وقصف بلدانٍ أو احتلالها، واغتيال رؤساء دول، وتحريض حروبٍ أهلية، وتمويل إرهابيين، وتنظيم انقلابات، وتسليح إسرائيل لتقوم باعتداءاتها...
ميشيل كولون/ بروكسل
كانت الولايات المتحدة تبدو وكأنّها تستطيع أن تسمح لنفسها بكلّ شيء، وكان التشاؤم يسود. كم مرّةً سمعت: «هذه الأنظمة العربية الفاسدة والشريكة لإسرائيل قويّةٌ جداً، فكيف لنا إنهاؤها؟» وجاء الردّ من أسفل: الشعوب أقوى من الطغاة.
لكنّ كلاً منّا يشعر أنّ المعركة لم تنتهِ بمجرّد إزاحة بن علي ومبارك، بل بدأت فقط. لانتزاع تغييراتٍ حقيقية، ينبغي تحييد أولئك الذين كانوا يحرّكون الخيوط في الكواليس. ومن هنا تنبع الأهمّية الحاسمة للإحاطة الجيّدة بآليات هذا النظام الذي ينتج الطغاة ويحميهم ويستبدلهم عند الضرورة. لماذا أخذت هذه الإمبراطورية تضعف، وكيف ستحاول الإبقاء على نفسها بأيّ ثمن.
ما من إمبراطوريةٍ أبدية
ما من إمبراطوريةٍ أبدية. عاجلاً أو آجلاً، تستثير صفاقة الجرائم مقاومةً عامة. عاجلاً أو آجلاً، تتجاوز كلفة «الحفاظ على النظام» المنافع التي تقدّمها هذه الحروب للشركات متعدّدة القومية. عاجلاً أو آجلاً، تتراجع الاستثمارات العسكرية أمام القطاعات الأخرى التي تفقد المنافسة الدولية.
والولايات المتحدة ليست استثناءً من القاعدة. إذ تنخفض عائدات شركاتها متعددة الجنسية منذ العام 1965، ولم تقم فقاعتا المديونية والمضاربة سوى بتأجيل المشكلة ومفاقمتها. انخفضت حصّتها في الاقتصاد العالمي من 50 بالمائة في العام 1945 إلى 30 بالمائة في الستينيات، وإلى نحو 20 بالمائة اليوم، وستنخفض إلى نحو 10 بالمائة في غضون عشرين عاماً. والحال أنّ أيّ جيشٍ لا يستطيع أن يكون أقوى من اقتصاده، وبالتالي، تتناقص قدرة الولايات المتحدة على لعب دور دركي العالم. اليوم، يصبح كوكبنا "متعدّد الأقطاب": هنالك توازنٌ جديدٌ يقوم بين الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا وروسيا ولاسيما مع بلدان الجنوب. وبخاصّةٍ مع الصين التي برهنت على أنّ الاستقلالية هي أفضل طريقةٍ في التقدّم. لم تعد الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا تستطيعان فرض إرادتهما كما في الماضي. وقد تموت نزعتهما الاستعمارية الجديدة قريباً.
في الحقيقة، يتزايد وضوح هذا الأفول الأمريكي منذ عشر سنوات.. في العام 2000، انفجرت فقاعة الإنترنت، وفي العام 2002، أحبط الشعب الفنزويلي الانقلاب المصنوع في الولايات المتحدة الأمريكية وبدأ هوغو شافيز إصلاحاته الاجتماعية الكبيرة التي ستمضي بأمريكا اللاتينية بأكملها في طريق المقاومة. في العام 2003، غرقت آلة حرب بوش في العراق كما في أفغانستان. كما فشلت «إسرائيل» في العام 2006 في لبنان وفي العام 2009 في غزة. الهزائم تتراكم.
بعد الأمريكيين اللاتينيين، العرب. وغداً الأفارقة؟
لقد صنعت ثورتا التونسيين والمصريين العظيمتان معجزات: أخذنا نسمع الولايات المتحدة تمتدح اليوم «التحوّل الديمقراطي» في حين أنّها هي التي زوّدت طيلة عقود الطغاة بالدبابات والصواريخ والرشاشات وعقدت لهم ندوات التدريب على التعذيب! وفرنسا كذلك. وهذه الثورة تغرق في القلق صانعي استراتيجيات الإمبراطورية الأمريكية الكبيرة، والإمبراطورية الفرنسية الصغيرة، والإسرائيليين الذين توفر لهم تلكما الإمبراطوريتان الحماية. شكراً للعرب!
موضوع هذا القلق: كيف يمكن إنجاز تغييرٍ قليلٍ كيلا ينجز تغيير شيءٍ جوهري؟ كيف يمكن الإبقاء على الهيمنة على نفط الشرق الأوسط ومواده الأولية والاقتصادات عموماً؟ كيف يمكن منع إفريقيا من أن تتحرّر هي أيضاً؟
لكن ينبغي أن نمضي إلى لبّ الأمور. لا يمكن أن يخفي السرور بالخطوات الأولى الطريقَ الذي لا يزال ينبغي عبوره. لم يكن زين العابدين بن علي هو وحده من نهب تونس، بل طبقةٌ كاملةٌ من المستفيدين، من تونسيين وبخاصّةٍ من أجانب. ليس مبارك وحده من قمع المصريين، بل نظامٌ كاملٌ حوله. وخلف هذا النظام، الولايات المتحدة. المهمّ ليس الدمية، بل من يحرّكها. تحاول واشنطن، كما تحاول باريس، أن تستبدل الدمى المستهلكة فقط بدمى أكثر قبولاً.
لا ديمقراطية حقيقية دون عدالةٍ اجتماعية
إنّ المسألة التي يرغب التونسيون والمصريون والآخرون في حلّها ليست: «من هو الزعيم الجديد الذي سيقدّم لنا وعوداً جديدةً لن يفي بها، قبل أن يضربنا كما في السابق؟» مسألتهم هي بالأحرى: «هل سيكون لديّ عملٌ حقيقيٌّ بأجرٍ حقيقيٍّ وحياةٌ لائقةٌ لأسرتي؟ أم سيكون مخرجي الوحيد قاربٌ سيغرق في المتوسّط أو في سجنٍ أوروبيٍّ مخصّصٍ للمهاجرين غير الشرعيين؟»
مؤخراً، كانت أمريكا اللاتينية تعيش الفقر نفسه واليأس نفسه. كانت العوائد الهائلة للنفط والغاز والمواد الأوّلية الأخرى تستخدم في زيادة انتفاخ خزائن شركتي إكسون وشل في حين كان نصف الأمريكيين اللاتينيين يعيشون تحت عتبة الفقر، دون أن يقدروا على دفع كلفة الطبابة أو التدريس الجيّد لأبنائهم. بدأ كلّ شيءٍ في التغيّر في العام 2002 حين أمّم هوغو شافيز النفط وعدّل جميع العقود مع الشركات متعدّدة القومية وفرض عليها أن تدفع ضرائب وأن تتقاسم الأرباح. في العام التالي، أضيف إلى خزينة الدولة مبلغ 11.4 مليار دولار (كان المبلغ صفراً لمدّة عشرين عاماً!)، وأخذت الدولة تقيم برامج اجتماعية؛ خدماتٌ صحّية للجميع، مضاعفة الحدّ الأدنى للأجور، مساعدة للتعاونيات وللشركات الصغيرة الخالقة للوظائف. وفي بوليفيا، فعل إيفو مورالس الشيء نفسه. وامتدّ المثال. هل سيصل إلى المتوسّط والشرق الأوسط؟ متى يأتي شافيز أو مورالس عربي؟ تستحق شجاعة هذه الجماهير الثائرة تنظيماً وقائداً، مخلصين وعازمين على المضيّ إلى النهاية.
الديمقراطية السياسية الحقيقية مستحيلةٌ دون العدالة الاجتماعية. في الحقيقة، المسألتان مرتبطتان ارتباطاً وثيقاً. فلا أحد يقيم دكتاتوريةً لمجرّد السرور أو الانحراف، بل دائماً للحفاظ على امتيازات طبقةٍ صغيرةٍ تستولي على الثروات. الدكتاتوريون موظّفون لدى الشركات متعدّدة القومية.
من هو الذي لا يريد الديمقراطية أبداً؟
في مواجهة غضب التونسيين، من هو «الرجل الجديد» الذي اقترحته واشنطن؟ رئيس وزراء الدكتاتور السابق! في مواجهة الرغبة في التغيير عند المصريين، من هو الذي حاولوا وضعه على رأس السلطة؟ قائد الجيش السابق، صنيعة وكالة المخابرات المركزية الأمريكية! إنّهم يستخفّون بالناس.
قبل خمس سنوات، تجرّأ وزير الخارجية الفرنسي الأسبق فيدرين على أن يعلن أنّ الشعوب العربية غير ناضجة لإنجاز الديمقراطية. تبقى هذه النظرية مسيطرةً في صفوف نخبةٍ فرنسيةٍ تمارس بصراحةٍ متفاوتةٍ العنصرية المعادية للعرب ورُهاب الإسلام.
في الحقيقة، فرنسا هي غير الناضجة للديمقراطية. فرنسا هي التي سحقت التونسيين في العامين 1937 و1952، والمغاربة في العام 1945. فرنسا هي التي شنّت حرباً طويلةً وداميةً لمنع الجزائريين من ممارسة حقّهم الشرعي في السيادة. فرنسا هي التي ترفض، على لسان رئيسٍ إنكاريٍّ، الاعتراف بجرائمها ودفع ديونها للعرب والأفارقة. فرنسا هي التي حمت زين العابدين بن علي حتّى سلّم الطائرة التي حملته. فرنسا هي التي فرضت أسوأ الطغاة في كلّ أرجاء إفريقيا وتبقيهم.
تسمح العنصرية الحالية المعادية للإسلام بضرب عصفورين بحجرٍ واحد. العصفور الأوّل: في أوروبا، يتمّ تفريق العمّال وفق أصلهم (ثلث العمّال الفرنسيين أو البلجيكيين مهاجرون قبل وقتٍ قصير) وفي حين يتمّ نقاشٌ حول البرقع، يهاجم أرباب العمل أجور جميع العمّال وشروط عملهم ورواتبهم التقاعدية، سواءٌ أكانوا محجّبين أم لا. والعصفور الثاني: بالنسبة إلى البلدان العربية، يسمح الخوف من الإسلام بتجنّب الأسئلة المحرجة. بدلاً من التساؤل «من الذي فرض هؤلاء الدكتاتوريين؟» والإجابة: أوروبا، أوروبا الطبقة العليا، أوروبا الشركات متعددة القومية، يتم تقديم العرب بوصفهم «غير ناضجين لإنجاز الديمقراطية» وبالتالي خطرون. تتم الأبلسة عبر المبادلة بين الضحيّة والمذنب.
لكن، إليكم السجال الأساسي، وهو يتعلّق بنا جميعاً سواءٌ أكان يجري أم كان مخفياً: لماذا لا تريد الولايات المتحدة وفرنسا ومن لفّ لفّهماـ الذين ليس على لسانهم سوى كلمة «ديمقراطية»ـ إطلاقاً ديمقراطيةً حقيقية؟ لأنّه لو كانت الشعوب تستطيع أن تقرّر بنفسها كيف تستخدم ثرواتها وعملها، فستتعرّض مزايا الفاسدين والمستفيدين لخطرٍ كبير!
لإخفاء رفض الولايات المتحدة وحلفائها للديمقراطية، يستثيرون وسائل الإعلام بـ«الخطر الإسلامي». أيّ نفاق! هل نراهم يحذّروننا ويديرون كبرى الحملات الإعلامية عن الإسلاميين المطيعين لهم مثل نظام المملكة العربية السعودية المقيت؟ هل نسمعهم يعتذرون بعد تمويلهم إسلاميي بن لادن لقلب حكومةٍ أفغانيةٍ يساريةٍ حرّرت النساء؟
دورنا مهم
العالم يتغيّر بسرعة. إنّ أفول الولايات المتحدة الأمريكية يفتح آفاقاً جديدةً لتحرير الشعوب. في الأفق تغيّراتٌ هائلة...
لكن في أيّ اتجاهٍ ستمضي؟ كي تكون تلك التغيرات إيجابية، على كلّ واحدٍ منّا العمل على شيوع إعلامٍ حقيقي، على التعريف بالملفّات الشائنة، على كشف الستار عن الاستراتيجيات السرّية. سيسمح ذلك كلّه بإقامة سجالٍ حقيقي، شعبي ودولي: ما هو الاقتصاد والعدالة الاجتماعية اللذان تحتاجهما الشعوب؟
والحال أنّ الإعلام الرسمي حول هذا كلّه كارثةٌ، وهذا ليس مصادفةً. بالتالي، كي يقوم هذا السجال منذ الآن وفي كلّ مكان، لكلٍّ منّا دورٌ كبيرٌ يقوم به. الإعلام هو المفتاح. كيف؟ سنعود إلى ذلك في نصٍّ قادم، بعد أيام.