الأردوغانية.. مشاكل لانهائية
تقترب الذكرى الأولى للحرب العالمية الأولى التي انتهت إلى انهيار السلطنة العثمانية، في الوقت الذي تزداد فيه المخاوف والتحذيرات من الاختلاطات السلبية الناتجة عن تعقيدات السياسات الخارجية التركية...
تركيا صاحبة التركة الأطلسية الثقيلة والمتجذرة، لا تستطيع الخروج نهائياً وفك الارتباط عن سياسات الولايات المتحدة، خصوصاً وأن لدى الأمريكيين أدوات فاعلة وبقوة في داخل جهاز الدولة التركي ودوائر صنع القرار السياسي المركزية، بالتالي لم يكن مستغرباً انهيار العناوين الرئيسية للسياسة التركية الخارجية مع الجوار، ومحورها الأساسي مقولة «صفر مشاكل»، وكان موقف تركيا من الأزمة السورية والذهاب إلى الأقصى ورفض أي دور للنظام السوري القائم في «المرحلة الانتقالية» أو «سورية المستقبل» وفق المقولة التركية، مثلاً فاقعاً على جر تركيا إلى ساحة المشاكل مجدداً.
انعكس ذلك على موقف المعارضة السورية المدعومة بقوة من حكومة تركيا برفض أية مبادرة للحوار مع النظام القائم، ومع هذا التغير في الموقف السياسي من النظام السوري والتشدد بالعدائية تجاهه، جاءت التعقيدات والاختلاطات الخطيرة على السياسة التركية، فسيناريو إسقاط النظام في سورية بالشكل التقليدي لم يتحقق، والسبب الرئيسي كما أصبح بادياً اليوم للجميع هو التغير في التوازن الدولي، هذا التغير الذي سبب انزياحاً في الحسابات الدولية والإقليمية عموماً وهو ما أثر حتماً على حسابات الدولية التركية في عهد سلطة «حزب العدالة والتنمية» الإسلامي.
كان أهم الآثار السلبية خسارة تركيا خلال السنة الماضية على صعيد وزنها الدولي، وذلك بعد أن فشل سيناريو التدخل العسكري المباشر وبالتالي انتهاء وفشل مهمة «مجلس اسطنبول» الذي كان من المفترض أن يكون حاملاً للوزن التركي في تلك الرسمة، لذا كان لا بد للأتراك من البحث عن تعويض لتلك الخسارة من خلال الدخول بملفات إقليمية جديدة أو إعادة ترتيب الأوراق في الملفات الموجودة أصلاً.
من هنا تأتي مؤشرات التدخل التركي في ملف الأكراد في العراق، والاعتراف رسمياً من رئيس الوزراء «رجب طيب أردوغان» بوجود مباحثات مباشرة مع «عبدالله أوجلان» زعيم حزب العماّل الكردستاني المعتقل منذ عام 1999، بغية الوصول لحل نهائي لحالة الاقتتال العسكري بين دولة تركيا والأكراد في الشمال الشرقي، إضافة لدور الوساطة الذي يلعبه رئيس إقليم كردستان العراق «مسعود البرزاني» بين حزب العمّال الكردستاني والحكومة التركية، وهنا تظهر المخاوف الكردية من أن تكون هذه المفاوضات محاولة لشق الصف الكردي أو لكسب الوقت في ضوء تأخر حل الأزمة السورية ومحاولة الأتراك الخروج من ذلك الملف بأقل الخسائر. يضاف إلى ذلك خطر المقاتلين الأكراد على الحدود السورية وخاصة بعد معركة «رأس العين» ومافيها من إحداثيات تقلق الأتراك. أيضاً هناك الشقاق في الداخل التركي واعتبار المفاوضات مع «أوجلان» بمثابة الخيانة والتخاذل، أو قبول المفاوضات بشرط عدم المساس بوحدة الدولة التركية وسيادتها، ورغم كل هذا التعقيد إلا أن المساعي التركية مستمرة، حيث عملت تركيا على مهاجمة القوى التي تعتبرها معادية أو لاتخدم مصالحها، فاتجهت إلى الجبهة العراقية عبر السعي لإقامة تحالف مع إقليم كردستان العراق بهدف إرباك الوحدة الداخلية العراقية، ووضع حكومة «نوري المالكي» في مواجهة صدام داخلي يخلق ضغط على حكومة «المالكي» مما يفترض أن يؤدي إلى زيادة الضغط على النظام السوري...
تلك الشبكة من التعقيدات تتناقض مع توجه تركيا لتصبح من كبرى الدول المصنّعة، ورغم أنها تملك المقومات الأساسية الضرورية لتلبية ذلك التطلع، لكن تبقى الإشكالية الأساسية في الطاقة، فتركيا لا تخصب اليورانيوم وبالتالي هي مضطرة دوماً لشرائه، وهي لاتملك الغاز أيضاً، وموارد توليد الطاقة الكهربائية من المياه حتماً لا تكفي لأن تحمل مشروع الدولة الصناعية الكبرى. من هنا تظهر الضرورة الملحة للعلاقة مع الروس ومحاولة الأتراك اللعب على حالة الاحتراب بين الأمريكيين والروس والكسب من الطرفين، فنشر بطاريات «باتريوت» حتماً ليست سورية هي المقصودة منه وإنما الهدف منه إيجاد جبهة دفاعية متقدمة أمام الصواريخ الإيرانية المؤثرة في معادلة توازن الرعب العسكري القائم. ومع فشل الوصفة الأمريكية التقليدية في سورية لإسقاط النظام ، فإن تركيا ترى بروسيا مخرجاً من «أزمتها» في الأزمة السورية، فهو بالنسبة لها أقل تكلفة مما هو مع الأمريكيين.
هذا التناقض بين الضرورات الاقتصادية وإرث الدولة الأطلسية لاينحصر هنا فقط، فالسياسات الاقتصادية الداخلية أعطت دوراً رئيسياً للقروض الاستثمارية بفوائد منخفضة أو «مشجعة» خصوصاً بعد الوفرة الاقتصادية الناتجة عن الانفتاح على الجنوب، لكن باب الجنوب أصبح عصياً بسبب سوء العلاقة مع سورية وسينجم عنه حتماً تراجع شديد في إمكانيات الاقتصاد التركي، ناهيك عن ارتباط الاقتصاد التركي والقطاع المالي بالمراكز الرأسمالية المتأزمة. لذا يبدو التوجه الصناعي هو مخرج ضروري وليس طموحاً لـ«الامبراطورية العثمانية» كما يتصور البعض، وهو مايزيد من ضرورة إعادة العلاقة مع الروس مما يفرض تحولات في الموقف السياسي التركي على الصعيد الإقليمي.
تتحرك حكومة «أردوغان» في «المستنقع» السياسي كما يسميه بعض المحللين، واحتمالات الخطأ أكبر بكثير من احتمالات النجاح، والوضع الإقليمي يسير بشكل واضح بغير مصلحتها، سواءً إن كان في سورية وما آلت إليه الأمور والتكلفة المرتفعة لجنوح الأتراك بعكس الحل السياسي، وصولاً إلى العراق والملف الكردي وعدم وضوح مآلات هذا الملف وتعقيداته، كما أن الحرب الأخيرة على غزة أبرزت فشل مسعى السياسة الخارجية التركية في أن تكون تركيا عنصراً مؤسساً لنظام إقليمي تكون فيه قائدة لشرق أوسط جديد تساهم مع الشريك الأطلسي الأقوى، الولايات المتحدة، في رسم ملامحه.