كارثة تدنو..
إبراهيم البدراوي إبراهيم البدراوي

كارثة تدنو..

في خضم ما تشهده المنطقة من تطورات شديدة الخطورة، وفي تجاهل مشين لما يجري بدعم من سلطة مبارك، تصاعدت الفتنة الطائفية في مصر بين المسلمين والمسيحيين إلى ذروة عالية، ربما وصلت إلى مرحلة ما قبل الصدام الواسع. إذ يجري التصعيد الذي يقوده رجال دين ورموز من تيار الاسلام السياسي، ورجال دين مسيحيين، بكل ما يحمله هذا التصعيد من مخاطر تمزيق النسيج الوطني المصري وما يتلوه من كوارث مأساوية.

 

يتطلب الأمر محاولة تفسير ظاهرة صعود وهبوط التعصب الديني وصولاً إلى ترسيخ ظاهرة  «التكفير» والعامل الرئيسي وراء هذه الظاهرة وصولاً إلى ما نواجهه راهناً. وهي بالتأكيد ليست ظواهر أو عوامل دينية بحتة أو فكرية بحتة في مقدماتها وتطورها ونتائجها، ولكنها مرتبطة بتطورات اقتصادية– اجتماعية  سياسية، وليست هابطة من السماء من تلقاء نفسها كقدر محتوم.

ولذلك ينبغي تحديد محطات صعود وهبوط هذه الظواهر في تاريخ مصر الحديث والمعاصر ارتباطاً بالتطورات الاقتصادية– الاجتماعية– السياسية التي اتخذت توجهين اثنين في المراحل المختلفة. أي توجه النهوض بتكريس مشروع نهضة وطنية، أو توجه الردة عن مشروع النهضة بفعل داخلي أو خارجي أو كليهما وصولاً إلى الأزمة الشاملة والانحطاط، دون أن نتجاهل أموراً ثلاثة: أولها الخصوصية المصرية فيما يتعلق بطبيعة نسيجها الاجتماعي، الذي صاغته «عبقرية المكان» بتعبير العالم الفذ الراحل الدكتور جمال حمدان، إذ صيغت السبيكة السكانية المصرية تاريخياً عبر قدرة مصر على تفاعل فريد وتمثل وهضم كل مكوناتها البشرية الأصلية (وحتى الوافدة) بما حال دون أن تستقر أو تعمر طويلاً خريطة سكانية مبرقشة. لقد تمصر الجميع واندمجوا تماماً باستثناء اليهود– وكلهم وافدون– إذ لم يندمجوا في المجتمع المصري لتمسكهم بالأساطير التوراتية عن الفرادة اليهودية وشعب الله المختار، وانعزالهم في حاراتهم، وكذا الاستعماريون الأوربيون الذين وفدوا قبيل ومع الاحتلال البريطاني. وثانيها هو طبيعة النخب الطبقية– السياسية السائدة كإفراز فاعل ومعبر عن مراحل الصعود أو الانحطاط. ثالثها أن المجتمع المصري شأنه شأن كل المجتمعات تتداخل وتتشابك عناصر من المراحل السابقة مع اللاحقة. أي أن مراحل النهوض وسيادة نخبها الطبقية– السياسية ومنظوماتها الفكرية والقيمية لا تعني ازالة فجائية ومطلقة ونهائية عوامل وعناصر الردة وقواها.

 

التلازم بين النهوض والاستنارة.. بين الانحطاط والتعصب الديني:

كان تاريخ مصر الحديث والمعاصر نموذجاً ساطعاً لا يعتوره ابهام أو التباس على هذا التلازم. يتجلى ذلك باستعراض مراحل التطور المصري وتعرجاته منذ مرحلة محمد علي حتى اليوم. وهى مراحل خمس شهدت تكريس مشاريع نهضة أو حتى صياغة ونضال من أجل مشاريع نهضة ولو بصورتها الأولية، كما شهدت مراحل ردة وانحطاط.

في كل مرحلة منها تم إفراز نخبة طبقية سياسية سادت وقادت، تضمنت رجال دين طرحوا فكراً دينياً متوائماً مع المرحلة (أو مضاداً لها).

مرحلة مشروع النهضة تحت حكم محمد علي،  كان الشيخ رفاعة الطهطاوي ضمن من أوفدهم محمد علي ليقوم بوظيفة الإمام في الصلاة والإشراف على الشؤون الدينية لطلاب البعثة في فرنسا. لكنه تفوق على كل الدارسين، وتمثلت عبقريته– ليس في التحصيل العلمي فحسب– بل في أنه لم يضع الدين في تضاد مع العقل والعلم. وعاد من فرنسا ليشارك ابراهيم باشا في صياغة وقيادة مشروع النهضة وبناء نخبتها «نخبة المحاكاة»، أي محاكاة عناصر قوة النهضة الأوربية الحديثة.

مرحلة الثورة العرابية التي كانت حاملة بدورها لمشروع نهضة، قادتها «نخبة التمصير والاستقلال الوطني». ولعب رجل الدين والقائد البارز السيد جمال الدين الأفغاني دوراً بارزاً في التمهيد للثورة وصياغة مشروعها ونخبتها. وكان أبرز تلاميذه الامام محمد عبده أحد قادة الثورة. لم يضع أي منهما الدين في تضاد مع العقل أو العلم أو التحرر أو الثورة قبل اندلاعها أو أثناءه أو بعد الهزيمة.

مرحلة الاحتلال البريطاني التي أفرزت بعد هزيمة الثورة العرابية «نخبة المصالحة مع الغرب» حيث سادت التحولات السلبية والردة على كل الصعد. في هذه المرحلة تم نبذ مقاومة فعلية للاحتلال اكتفاءً بالاستعانة بفرنسا الاستعمارية للتخلص من الاستعمار البريطاني!! وحينما تجاوز الشعب المصري النخبة السائدة وتفجرت ثورة 1919 الشعبية، وتمت صياغة أولية لأهداف الثورة (الجلاء والدستور) في أوج الثورة التي كان العمال وفقراء الفلاحين هم أصحاب الفعل الثوري فيها، اختفت تماماً أي نزعة للتعصب الديني، ووصلت اللحمة بين المسلمين والمسيحيين إلى أقصى درجاتها قوة. وتم رفع شعار «الدين لله والوطن للجميع» وشارك مسيحيون بارزون في قيادة الثورة، وأطلق أحدهم وهو مكرم عبيد مقولة «أنا مسلم وطناً مسيحي ديناً».. الخ. لكن النخبة التي خشيت من تطور الثورة الشعبية سرعان ما عملت على تهدئتها ثم اغتيالها دون أن تحقق هدف الجلاء، بل عجزت عن الحفاظ على الدستور البرجوازي الذي صدر عام 1923 ودخلت إلى مرحلة تفاوض مع البريطانيين للجلاء لأكثر من ثلاثين عاماً دون جدوى.

غير أن التطور الأكثرخطورة في ظل الردة هو ظهور جماعة الإخوان المسلمين عام 1928 التي أعلنت منذ اللحظات الأولى عن توجهها السلفي. إذ كانت تعبيراً عن الهبوط المتوالي من الذروة التي أسس لها السيد جمال الدين الأفغاني وتلميذه الامام محمد عبده، إلى الشيخ رشيد رضا تلميذ الامام الذي تراجع مسافات طويلة عن خط أستاذه، وانتقل تأثيره إلى حسن البنا الذي أوغل في التراجع واستكمل خط الهبوط، في ارتباط بطبيعة المرحلة وافراز لها ولنخبة المصالحة مع الغرب الامبريالي، ولم تحمل الجماعة ومؤسسها أي مشروع للنهضة أو حتى صياغة برنامج سياسي حتى الآن. بل أرست مناخاً أنتج التعصب الديني والعداء لاعمال العقل وحرية التفكير والديمقراطية والتقدم والعدل الاجتماعي تحت ستار مناهضة الشيوعية... الخ.

مرحلة ثورة يوليو 1952 بقيادة «نخبة مشروع النهضة والأمن القومي العربي» التي ناصبتها نخبة المصالحة العداء بما فيهم الاخوان المسلمون، حيث عارض الجميع أول قانون لمصلحة الفقراء أصدره القادة الجدد بعد أقل من خمسين يوماً من الثورة وهو قانون الاصلاح الزراعي. وإذا كانت معارضة النخبة السابقة من كبار الملاك للقانون مبررة سياسياً وطبقياً، فإن التبرير الذي قدمه الاخوان وأضافوه إلى تبريرات النخبة المخلوعة هو أن «مال المسلم على المسلم حرام»!! وحينما فشل الاخوان في احتواء الثورة استخدموا العنف في مناهضتها وصولاً إلى المحاولة الفاشلة لاغتيال جمال عبد الناصرالذي وجه لهم ضربات ماحقة. واختفى تأثيرهم في إشاعة التعصب ليس بسبب البطش الناصري كما يدعون، وإنما بتطور مشروع النهضة بكل محتواه التحرري والتقدمي المعروف. وتشكلت لحمة ووحدة وطنية بين المسلمين والمسيحيين في ظل مواطنة متساوية. وبينما تشكلت قوى الثورة من المسلمين والمسيحيين الكادحين، كانت قوى الثورة المضادة تتشكل بدورها من مسلمين ومسيحيين. لقد تمت صياغة معادلة الصراع والتناقض الرئيسي بشكل صحيح. اختفى التعصب الديني وبرز رجال دين مسلمين ومسيحيين مستنيرين كرسوا نهج الوحدة الوطنية.

المرحلة الراهنة التي بدأت مع الانقلاب اليميني المضاد للثورة الذي قاده السادات– هيكل عام 1971. غير أنه وجد قدر من التداخل بين هذه المرحلة وسابقتها بفعل قوة دفع المرحلة السابقة، إلى جانب إصرار القوى الوطنية والجيش وضغوطهما لبدء معركة تحرير سيناء. كان من أبرز سمات هذه الفترة البينية استمرار قوة الوحدة الوطنية، ومشاركة بارزة من المسيحيين. فقد كان القائد العام لأحد الجيشين المصريين اللذين عبرا قناة السويس في حرب 1973 المجيدة مسيحياً، كما شغل مسيحون كثر مواقع هامة في الدولة وأداروها بكفاءة.

كانت أبرز آليات السادات في تهيئة المناخ لتمرير سياساته المدمرة المعروفة هى إفساح المجال للإخوان بعد أن افرج عن المسجونين منهم للعمل الواسع والدعاية، وإعداد وتسليح أعداد كبيرة من طلاب الجامعات للتصدي للشيوعيين والناصريين الذين كانوا يضغطون مطالبين بخوض حرب التحرير ومعارضة سياسات السادات. وجرى تمتين التحالف الساداتي– الإخواني، وأطلق السادات على نفسه لقب «الرئيس المؤمن». واستمر هذا التحالف بعد اغتيال انتصار أكتوبر وتمتين تحالفه مع الولايات المتحدة الأمريكية وتطبيق قوانين وسياسات الانفتاح الاقتصادي وتغول الطفيلية والنهب وقمع الشيوعيين والناصريين والعمال والفلاحين دون أدنى اعتراض من الأخوان، بل التعبير عن التأييد والامتنان. وفي ظل هذا الوضع حيث تبلورت «نخبة التكيف مع الغرب الامبريالي» بدأ التعصب الديني في البروز مصاحبا لنشوء منظمات ارهابية و متطرفة على نهج سيد قطب مثل التكفير والهجرة، والجهاد، بما يشير لبدء انفلات الأمور. وأعطيت حرية أكبر للاخوان رغم الانفلات خصوصاً عقب انتفاضة 18 و19 يناير 1977 حيث حدثت طفرة  في أداء الاسلام السياسي السلفي باصدار الفتاوى الدينية ضد الانتفاضة وببروز نزعة التكفير للخصوم السياسيين. وحينما قام السادات بزيارة القدس ثم كامب ديفيد في ظل معارضة شيوعية– ناصرية وإلى جانبهم عناصر وفدية قبل تشكيل حزب الوفد الجديد في ظل رفض شعبي لذلك، لم يعترض الاخوان على الصلح بل تصاعدت وتعالت الفتاوى الدينية لتبرير ما يقوم به السادات بدعوى أن اليهود أهل كتاب وأن المعركة الحقيقية ضد الشيوعية، واستمر ذلك لحين تصاعدت المعارضة والصدام مع السادات حيث التحق بها الاخوان قبيل اغتياله.  وحتى الآن فإنهم لا يعارضون السياسات الاقتصادية– الاجتماعية للسلطة رغم أن هذه السياسات هي التي هيأت للتبعية والصلح مع العدو، بل انهم يضعون أنفسهم مجرد منافس للسلطة يعمل على استمرار الأوضاع على ما هى عليه. ومحاولة مشاركتها ولو إلى حين. وبالتالي يجري دعم ما تعمل له النخبة السائدة للعمل على طمس التناقض الرئيسي بين الشعب المصري الكادح وبين الامبريالية والصهيونية وعملائهم المحليين باصطناع تناقض بين المسلمين والمسيحيين، وهو هدف استراتيجي صهيو– امبريالي وفي صالحهم على طول الخط.

 

النتيجة:

وصلت الأمور إلى ذروتها. أعلن أحد أهم رجال الكنيسة أن المسلمين مجرد ضيوف على مصر باعتبار مصر هى وطن المسيحيين وحدهم. وتلك مغالطة كبرى تفضي لنتائج مأساوية. وردود رموز الاسلام السياسي مؤداها نفي أي امكانية للتعايش. إن الأمور تشتعل.

هكذا ارتبط التعصب الديني من عدمه بتوجه التطور الاقتصادي– الاجتماعي السياسي. بتقدم نهج التحرر الوطني والعدل الاجتماعي أو بتراجعه.

من الشيخ رفاعة الطهطاوي إلى السيد جمال الدين الأفغاني وتلميذه الامام محمد عبده ثم هبوط متوال على يد رشيد رضا إلى حسن البنا إلى سيد قطب للالتقاء مع ابن تيمية وابن عبد الوهاب.

ان هذه الكارثة التي تهدد وحدة الكيان الوطني المصري، وتأثير ذلك على المنطقة العربية بأسرها لا يمكن تجنبها عبر مجرد لقاءات وحوارات أو حتى قوانين. ولكن تجاوزها ممكن فقط بازالة الأساس الطبقي الذي أفرزها بأسرع وقت. أي بالتخلص من النظام الحالي ونخبته السياسية وافرازاتها وإقامة نظام وطني وتقدمي يحمل مشروع نهضة شاملة لانقاذ مصر والمنطقة.