«التفاوض تحت وطأة الابتزاز»
يوم كان المفاوض الفيتنامي يواجه المفاوضين الأمريكيين على مدى جولات عدة في باريس، لم يأت إلى المفاوضات مهيض الجناح، ولم يكن بحاجة إلى الوقوف على الحواجز العسكرية ليأخذ الإذن بالخروج والدخول كما هو الحال في الضفة الغربية المزروعة بـ664 حاجزاً عسكرياً إسرائيلياً.
آنذاك كانت القوة لدى المفاوض الفيتنامي أنه جاء إلى طاولة المفاوضات أميناً على خيار المقاومة الشاملة وتضحيات الشعب وبطولاته وإنجازاته في الميدان. وبالوقت ذاته لم يكن المفاوض الأمريكي ليقبل بالجلوس إلى طاولة المفاوضات إلاّ بعد قناعته بإمكانية خسارة المعركة استراتيجياً، فاضطر إلى المفاوضة على تحسين شروط الانسحاب من فيتنام بعد كل ما اقترفه المحتل الأمريكي من جرائم ضد الشعب الفيتنامي البطل، وضد الإنسانية.. وهنا كانت نقطة الضعف لدى المفاوض الأمريكي.
من حق المواطن الفلسطيني، وكذلك المواطن العربي أن يتساءل: علام يتفاوض محمود عباس وفريقه تحت وطأة الابتزاز الصهيوني- الأمريكي؟ وهناك سؤال آخر ليس أقل أهمية: لماذا أصبح فريق السلطة في رام الله عاجزاً عن الانسحاب من المفاوضات؟
المسألة أعمق بكثير من كل ما قيل ويقال عن الاستيطان وتجميده، أو الاستمرار به.. لقد بدأ الفشل السياسي الاستراتيجي للقيادة الفلسطينية الرسمية منذ إلغاء (تعديل) الميثاق الوطني الفلسطيني عام 1988، وجاء الفشل الأكبر في اتفاقات أوسلو سيئة الصيت، حيث جرى «الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود بأمن وسلام» مقابل الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً للشعب الفلسطيني، دون أي ذكر للانسحاب الإسرائيلي لحدود عام 1967 ولأية إشارة لقيام الدولة الفلسطينية أو القدس أو حق العودة.
ومن هنا جاءت عودة السلطة الفلسطينية إلى الأراضي المحتلة ليس كخطوة على طريق تقرير المصير، بل لتلعب من الوجهة الفعلية دور «الإدارة المدنية» التي كانت سائدة منذ عام 1967 حتى عام 1944، والتي تخضع إلى سلطة الحاكم العسكري الإسرائيلي.
عندما تخلى فريق أوسلو عن خيار المقاومة واعترف بـ«مفهوم» الكيان الصهيوني للسلام، جرى الاعتراف بشكل غير مباشر بالمفهوم الإسرائيلي للأمن: أي حرية الكيان الصهيوني باستمرار الاحتلال والتوسع بالاستيطان بحماية الجيش «قانوناً» حق جيش العدو في شن الحروب بحجة الحفاظ على الأمن!.
منذ ثمانية عشر عاماً من المفاوضات وبالرعاية الأمريكية لم يكن أمام المفاوض الفلسطيني إلاّ تقديم التنازلات، لأنه تخلى عن خيار المقاومة، لا بل تجرأ فريق أوسلو وسلطة رام الله على التنسيق الأمني مع أجهزة الاحتلال لتفكيك فصائل المقاومة التي لم تعترف بمفاعيل اتفاقات أوسلو بما في ذلك «كتائب شهداء الأقصى»!.
ها هو نتنياهو يعلن بعد جولة المفاوضات في «شرم الشيخ» عن عدم تجميد الاستيطان، وينجح في نقل المفاوضات إلى القدس المحتلة ليثبت أمام الرأي العام العالمي أن «القدس هي العاصمة الأبدية للكيان الصهيوني»!.
إن الإدارات الأمريكية - قديمها وجديدها- استطاعت ليس فقط ترويض النظام الرسمي العربي في خدمة أهدافها الاستراتيجية- العدوانية ضد شعوب المنطقة، بل نجحت كذلك في تجنيد «فريق» فلسطيني مرتبط بها سياسياً وطبقياً ليلعب دوره في ضرب خيار المقاومة والإجهاز على الحقوق الوطنية الثابتة للشعب الفلسطيني!
لكن حساب الحقل لن يتطابق مع حساب البيدر، لأن التقاليد الكفاحية للشعب الفلسطيني منذ مئة عام ليست فقط ستطيح بجميع المفرطين بحقوق الشعب الفلسطيني، بل ستوفر الظروف اللازمة، وعبر خيار المقاومة، من أجل الانتصار على المشروع الصهيوني وفرض حقوق الشعب الفلسطيني في العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس!.