معضلة القوى الوطنية التقدمية
من أهم ملامح الانتفاضات التي عمت العديد من الأقطار العربية إفتقارها إلى القيادة السياسية الجامعة القادرة على قيادة الحدث والمنسجمة مع فحوى الحراك وأهدافه السياسية الاجتماعية. فجوهر المطالب التي التفت حولها الملايين من الناس يتصل بالعدالة السياسيةوالاجتماعية،
والانتقال من حكم الحزب الواحد والجمهورية الوراثية إلى نظام أكثر عدلاً يلبي طموحات المواطنين في العيش الكريم والتوزيع العادل للثروة والتداول السلمي الديمقراطي للسلطة . ومن الطبيعي أن تكون القوى الحاملة لهذه المطالب بهذا الجوهر هي القوىالسياسية التقدمية والوطنية المؤسَّسة من خارج الإطار الديني والمذهبي والمسؤولة موضوعياً عن قيادة الشارع بمكوناته وفئاته الاجتماعية ذات المصلحة في التغيير، إلا أن ذلك لم يتحقق وبدت هذه القوى عاجزة عن أن تفي بهذه المسؤولية التاريخية، بل وأصبح بعضهافي ذيل التطورات ، يلهث باحثا عن دور ما بالمساومة على مبادئه مع القوى التي تصدرت المشهد وتقف على النقيض من فكره وأيديولوجيته.
إن واقع القوى الديمقراطية التقدمية على امتداد المساحة العربية يعبر عن مأزق بنيوي وفكري عميق. ولكي لا نتجنى على هذه القوى التي تصدت لمهمات النضال الاجتماعي والسياسي التحرري والتحديثي منذ عشرينيات القرن الماضي ، لا بد من الإشارة إلى الاضطهاد والقمع الدموي والسياسي الذي تعرضت له هذه القوى على أيدي المستعمر والأنظمة القمعية المتوالية ومن القوميين الشوفينيين في مراحل مختلفة من تاريخ المنطقة، وكانت غالبيتها تعمل في ظروف السرية المعقدة، وتعرضَ أبناؤها للإعتقالات والملاحقة والتشرد فيالمنافي ، والتشهير وفتاوى الردّة. ليست هناك دولة عربية لم تضطهد الوطنيين والتقدميين، بل وكان التنسيق الأمني في الغالب هو لملاحقة هذه القوى، وغلق الحدود أمامها واختطاف عناصرها واغتيالهم. الدول الغربية التي ترفع عقيرتها اليوم دفاعا عن الحرية كانتطرفا أساسيا في حملة الاضطهاد هذه مباشرة وعبر خبرائها في الأجهزة الأمنية, وكانت توصد الأبواب أمام التقدميين العرب في حين أنها احتضنت أبو حمزة المصري وقيادات السلف والإخوان، وأولئك الذين تلطخت أيديهم بدم الضحايا في السجون والمعتقلات.
وتسابقت الأنظمة إلى احتضان الإسلام السياسي ودعمه مادياً وسياسياً في مواجهة قوى التقدم التي رأت فيها تهديداً لفسادها وسطوتها الاقتصادية والسياسية وتواطئها مع الإحتكارات الأجنبية. هذه السياسة الخرقاء فتحت الطريق إلى تغلغل الفكر التكفيري الإقصائي حيثوُظفت وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية في خدمة هذا التيار من خلال البرامج الدينية، كما استبيحت المنابر الدينية والمدارس لنشر فتاوى الجهل والارتداد الاجتماعي، وأضحت المرأة والجنس الشغل الشاغل للعقول التي تولت توجيه الدعوة الدينية والمجتمعية.في هذا الانفلات غير المسبوق لهذا التيار كانت قوى الإسلام السياسي تنشط في حشد الأعضاء والمناصرين بعد أن تهيأت الأنفس، بالتزامن مع رشوة الناس البسطاء والمدقعين ببعض الفتات من المواد التموينية وبعض الخدمات التي كانت تموَّل من واردات الاشتراكاتوالتبرعات والهبات ومردود النشاط الاقتصادي للبنوك والمؤسسات المالية والتجارية المملوكة لتنظيمات الإسلام السياسي في البلاد العربية والأجنبية بما فيها الديمقراطيات العلمانية الأوروبية.
لم يكن للقوى الديقراطية التقدمية أن تنتعش في هذا الواقع الذي أريد منه تغييب الوعي الوطني والاجتماعي ومحاربة كل مظاهر الحضارة والزج بمجتمعاتنا إلى الوراء باسم الدين الذي تمت مصادرته وتوظيفه في مواجهة الزمن والإنسان. غير أن هذه الحقيقة هي جانبمن المشكلة وليست كلها. فالقوى المعنية بالتغيير تتحمل مسؤولية ذاتية عن ما وصلت إليه من ضعف وتشرذم وضياع البوصلة عند الكثيرين منها، فلم تعد قادرة على مواكبة المنعطف التاريخي الذي نحن بصدده أو التاثير الحقيقي في مجرياته وتوجهاته، واتسمتتحركاتها بالبلبة والتناقض. في المثال المصري كان للتقدميين دور مؤثر في الميادين وتنظيم الحراك اليومي، ولكنها افتقدت إلى الرؤية الاستراتيجية في البناء على هذا الحراك لتطويره وتحصينه من القوى التي عارضته في بدايته ودخلت في مناورات مع النظام ثم قفزتإلى الميدان بعد تغير موازين القوى لمصلحة الانتفاضة. انعكس افتقاد الرؤية هذا في تحديد الخصوم والحلفاء، ولم تشفع حركة الجماهير في زعزعة عقدة الانقسامات العقيمة في البيت الوطني والتقدمي الواحد، ولم تفتح مخاطر انزلاق الحراك وانقسام الوطن المصري عيون قادة التنظيمات السياسية التقدمية وعقولها نحو توحيد الصف الوطني وتشكيل جبهة وطنية ديمقراطية تضمن الانتقال السلمي إلى نظام سياسي واجتماعي يلبي أهداف الحراك وطموحات الغالبية الساحقة من الشعب المصري. في الانتخابات الرئاسية قدم اليسار ثلاثةمرشحين في حين أن المرشح الرابع المحسوب على التيار القومي التقدمي كان أوفر حظاً وكان لزاماً الالتفاف حوله لقطع الطريق على مرشح الإخوان والسلطة. لكن الواقع البنيوي للتنظيمات التقدمية لم يكن ليسمح بموقف عقلاني يقوم على عملية التكتيك والممارسة وفنإدارة التحالفات وتحديد الخصوم. وهذا ينطبق على الواقع التونسي والسوري واليمني، حيث تتشكل تحالفات لا يمكن تفسيرها بين قوى التغيير وقوى الإسلام السياسي الذي يناور بمهارة لابتلاع الدولة والمجتمع، ويوظف هذه التحالفات لتحقيق مكاسب ذاتية في مواجهةالسلطة بالديماغوجية وبالدم إن تطلب الأمر.
وفي البحرين لم تجد القوى الوطنية الديمقراطية ضرورة في توحيد تيارها بل آثر البعض التحالف المطلق مع التيارات المذهبية وانجرف إلى حماس الشارع واحتجاجاته اليومية فلم يعد يقبل بالرأي الآخر الذي يدعو إلى التهدئة والحوار غير المشروط والمقاربةالموضوعية للواقع الوطني والاقليمي، ولجأ إلى قاموس التخوين ووصْم الغير بالانتهازية والتحريفية وغيرها من الأوصاف الجاهزة.
في الحقيقة إننا نحن جميعاً نتاج هذا الواقع الإجتماعي والتركيبة النفسية والقبلية والدينية والطائفية . فمهما كانت قناعاتنا السياسية وفكرنا الايدولوجي لن نستطيع تجاوز عصبياتنا التي نشأنا عليها منذ الطفولة ومع أول صفعة على الوجه تلقيناها من آبائنا ومدرسيناورؤساء أعمالنا. ليس من السهل التخلي عن تركيبتنا النفسية المعقدة في تناقضاتها مع معتقداتنا الفكرية والسياسية التي تتبنى الحرية والتعددية. ليس غريبا في هذا الواقع أن يكون في كل منّا شيء من دكتاتورية صدّام وجنون القذافي وأبوة رؤساء القبائل. ستبقى هذالإشكالية قائمة لأنها موضوعية وذاتية، وستلقي بظلالها على الحراك المجتمعي ومخرجاته إلى أن تتبلور شروط أخرى ودماء جديدة أقل تلوثا بعقدة الإقصاء ونزعة الاستئثار والنجومية.