على ضفاف تونس...

على ضفاف تونس...

عندما كـُتِبَتْ افتتاحية «قاسيون» للعدد الماضي 485 يوم الأربعاء 12/1/2011، تحت عنوان «كيمياء الانفجار»، اعترف أنني ممن لم يكونوا يتوقعون سرعة تطور الأحداث في تونس بالوتيرة التي سارت عليها وبالسيناريوهات والقراءات الواردة في تلك الافتتاحية، بما فيها، بعد استهلال التقديم المنطقي لـ«معادلات الانفجار» و«الرد البوليسي» عليه، التأكيد على «تداخل المصالح والأصابع»، «وأدوار القوى من داخل النظام والقوى الإقليمية والدولية»، وضرورات التمييز بين «المحرك والحركة ومحاولات التحكم»، ومحاولات ركوب موجة انتفاضة التونسيين ومصادرة دورهم «من جميع الأطراف»، مع التأكيد على وجود حواضن «الانفجار الشعبي الحقيقي والمشروع في تونس»...

في القراءة الثانية للمشهد التونسي بعد يوم الجمعة 14/1/2011، يمكن ملاحظة ما يلي:

• الحراك العفوي في توسع الانتفاضة لم يستسلم لوعود التغيير الزائفة التي أطلقها «بن علي» ونظامه، بل مضى حتى الإطاحة بشخص الرئيس.

• هروب «بن علي» مع بعض أفراد عائلته بالطريقة التي جرت يوحي بأنه كانت لديه من موقعه معطيات أكيدة، أو على الأقل إشارات بأن باريس وواشنطن رفعتا الغطاء عنه، وإلا لكان لجأ للسيناريو الأول الموغل في بوليسيته وقمعه لجهة ارتكاب مجزرة بحق التونسيين، ولكنه لما أدرك كشف ذلك الغطاء ووجود اختراقات لفكرة الولاء الشخصي له داخل بنية نظامه بالذات، خشي أن يجري سحله بالشوارع، فاختار النجاة بحياته، مع ما أمكنه تهريبه من ثروات التونسيين، هائماً في السماء بحثاً عن ملجأ...

• دليل آخر على ذلك هي الاستقالة المسبقة للسفير التونسي لدى منظمة اليونيسكو، المازري حداد، من منصبه وهو الموجود في مكان يسمح بتسريبات عن اتجاهات التفكير والقرار لدى عواصم النفوذ في العالم، من دون أن يعني ذلك بالضرورة وجود سوء النوايا لدى الرجل تجاه أبناء جلدته، ولكنه ببساطة ربما أراد التبرؤ من «بن علي» في الوقت المناسب.

• من ناحية أخرى، فإن استمرار غالبية رموز حقبة «بن علي» على رأس السلطة الانتقالية يؤكد أن هناك من يريد مصادرة تضحيات الشعب التونسي وانتصاره، من أجل إجراء عملية «إعادة إنتاج للنظام» وليس تغييره، أي «إيجاد تعبيرات سياسية بديلة» لا أكثر، بما يعنيه أيضاً «إيهاماً بالتغيير» من إحداث تغيير في الوجوه لا في السياسات.

• وللإيغال في عمليتي المصادرة، من جهة، وإعادة إنتاج النظام من دون الإطاحة به، من جهة أخرى، جرى ويجري تضخيم منع «السلطة الانتقالية» لراشد الغنوشي، زعيم «حركة النهضة الإسلامية»، من العودة إلى تونس من منفاه، دون سواه، مع أن كل القوى السياسية وقياداتها كانت غائبة في بداية الانتفاضة. والغاية من ذلك هي «تكبير» وزن التيار الديني في تونس ومحيطها المضطرب اجتماعياً، والسعي لإيجاد «ثنائية وهمية» جديدة أمام التونسيين تطيح بأساس انتفاضتهم وطابعها الطبقي، على اعتبار أن لا فرق عملياً في الرؤية والبرنامج الاقتصادي- الاجتماعي لدى «النظام المعاد إنتاجه» و«معارضته» المفترضة، فكلاهما ليبرالي، سيسعى للتخدير والتمويه عن جوهر الصراع الاجتماعي السياسي..!

إن المطلوب من التونسيين واضح اليوم، وهو يتمثل أولاً في مواصلة انتفاضتهم لتثبيت الطابع الطبقي للثورة الشعبية التونسية، بما يعنيه الإطاحة بالنظام برمته وإنتاج سلطة شعبية حقيقية وإعادة تشكيل الفضاء السياسي التونسي، واعتماد نموذج اقتصادي اشتراكي الجوهر بغض النظر عن تسميته ولكن بما يعبر عن مصالح فقراء التونسيين أولاً وأخيراً.