مليون ونصف تونسي: ضد الاغتيال.. مع اليسار
«الجنازة التاريخية»... هكذا أرادها مشيعو الشهيد «شكري بلعيد» وهكذا كانت، فبمشاركة قرابة المليون وأربعمئة ألف شخص _وفق تقديرات الداخلية التونسية_ تكون أضخم وأهم جنازة تشهدها تونس منذ جنازة الشهيد الوطني «فرحات حشاد» عام 1952.
ترافق حدث التشييع مع الإضراب العام الذي دعا إليه الاتحاد العام التونسي للشغل للمطالبة بنبذ العنف ومحاكمة القتلة وحل رابطات حماية الثورة (ميلشيات حركة النهضة)، وقد حققت الدعوى استجابة كاملة في معظم محافظات البلد وتوقفت كل النشاطات الحيوية في ذلك اليوم عدا عن باصات النقل العام.
هذا التفاعل مع حدث اغتيال «بلعيد» ناتج عن الصدمة القوية التي تلقاها الشارع التونسي إثر الحدث والمخاوف الشعبية والسياسية من دخول تونس في «حمام دم» الاغتيالات، فاغتيال «بلعيد» اليوم يعتبر النتيجة الطبيعية للاحتقان والتوتر السياسي الشديد الذي يسود تونس منذ الأشهر الأولى لتولي حركة «النهضة» السلطة، واشتدت تلك الحالة من التجاذبات والاستعصاء السياسي في الأشهر الأربعة الأخيرة خصوصاً، والتونسيون الذين لم يعرفوا الاغتيال السياسي في حياة البلاد سوى حادثة اغتيال الزعيم الوطني «صالح بن يوسف» سنة 1961، وحادثة اغتيال المنسق العام لحزب حركة نداء تونس، لطفي نقض، من مجموعة من روابط حماية الثورة في تشرين الأول الماضي.
وكانت العديد من القوى والشخصيات قد حذرت من دخول تونس في دوامة الدم السياسي نتيجة تصاعد مستوى العنف الذي يمارسه السلفيون ومجموعات «رابطة حماية الثورة»، ليكون هذا الاغتيال النتيجة الطبيعية للثقافة السائدة لـ «النهضة» التي وصلت إلى الحكم باعتبارها حركة إسلامية تواجه «مؤامرات الأعداء من الشيوعيين والعلمانيين وبقايا النظام السابق». هذا الخطاب الذي يروّجه قياديو «النهضة» وخاصة بعض الأئمة في المساجد، وقد غذّت «هذه الثقافة» روح التشدد والانتقام ممن يمكن اعتبارهم «ملحدين» و«متآمرين»، من هنا يأتي تحميل مسؤولية الاغتيال للحكومة وحركة «النهضة» من القوى السياسية و«الجبهة الشعبية» على وجه الخصوص وهي التي ساهم «بلعيد» في تأسيسها ضمن مشروع توحيد اليسار في تونس. والتوتر السياسي المستمر بين حكومة «النهضة» وباقي القوى السياسية عبّر عن نفسه في الأشهر الستة الماضية تحديداً بمظاهرات حاشدة مناهضة للـ«نهضة» وفشل سياساتها الاقتصادية في إنقاذ البلاد وتغيير مسار الاقتصاد، والإقصائية السياسية التي تتعامل وفقها الحركة وحلفاؤها في الحكومة، واستمرار المواجهات بين المتظاهرين وقوى الأمن والذي وصل إلى سقوط ضحايا عدة في أكثر من حادثة ومدينة، وكانت المواجهات مستمرة في يوم تشييع الشهيد وأبرزها في العاصمة تونس وفي مدينة «سيدي بوزيد» شرارة الثورة التونسية،.
يتخوف التونسيون والقوى السياسية في تونس من ترسّخ نموذج الاغتيال السياسي والناتج عن عقلية الإقصاء في «الإسلام السياسي»، ورغم المبادرة الأخيرة التي أطلقها الأمين العام لحركة «النهضة» و رئيس الحكومة التونسي «حمادي الجبالي» لتأليف حكومة «تكنوقراط» لا انتماءات حزبية فيها، فإن رفض الحركة في البداية لهذا المقترح عبّر عن أفق مسدود واستمرار للاستعصاء، ومؤخراً أعلنت الحركة عن تراجعها عن رفض المبادرة لكن العقلية التي انتهجتها الحركة منذ وصولها الحكم لا تعطي الكثير من التفاؤل، وكذلك عدم اتخاذ إجراءات حاسمة وفعلية إزاء تصرفات «لجان حماية الثورة» والمجموعات السلفية المتشددة يبقي الأمور في دائرة الخوف من تفاقم الأمور إلى ما هو أسوأ.