" الآن هنا .... أو شرق المتوسط مرة أخرى! " (1/2)
على هوامش الأزمات الكبرى والانعطافات التاريخية، تصبح كل المفاهيم والأفكار والرؤى ضمن دائرة الجدل، حتى تلك التي اكتسبت الدرجة القطعيّة واليقين في الوعي الاجتماعي.
فيتزلزل عرش المقدس، ويصبح حتى المحرم ضمن دائرة النقد، لاعاصم أمام الفكر إذاً، طالما أن تناقضات الواقع الموضوعي كشفت عن بؤس ما هو سائد، وطالما أن ما هو سائد استنفد دوره التاريخي بغض النظر عما أنجزتهُ فيما مضى من الزمن، سواء كانت أنظمة، أو أحزاباً أو سواها من البنى الاجتماعية.
في شرق المتوسط - منها سورية طبعاً- مخاض تاريخي سيتمخضُ عنهُ بكل تأكيد ولادة واقع جديد، بغضّ النظر عن الشكل الذي سيكون عليه هذا الوليد، بمعنى آخر أن ما هو سائد من بُنى ومفاهيم وأفكار وحتى حدود سياسية في هذه الجغرافيا المضطربة باتت في برزخ انتظار ما هو قادم، حتى يتقررمصيرها.
التاريخ يتحدث
شهدت المئة سنة الأخيرة ثلاثة انعطافات تاريخية كبرى في شرق المتوسط، تفكك الامبراطورية العثمانية الاحتلال الغربي – الاستقلال ونموذج الدولة الوطنية – وصولاً إلى الوضع الراهن الذي نعتقد أنه الانعطاف الثالث... وإذا كان تفكك الدولة العثمانية والاحتلال الغربي قد حددا المسار التاريخي لهذه المنطقه خلال القرن الماضي فإن ما يجري الآن سيحدد مصيرها اللاحق ربما لعقود من الزمن.
كل تحول تاريخي في المنطقه كان انعكاساً لتحوّل تاريخي على المستوى الدولي، فالحرب العالمية الأولى انتجت تفكك الامبراطورية العثمانية، و الاحتلال الغربي لبلدان الشرق، ومرحلة الاستقلال كانت نتاج الحرب العالمية الثانية واستقرار التوازن الدولي الجديد بعد تراجع الدور الانكليزي الفرنسي والانكليزي على المستوى العالمي، لمصلحة الدور الأمريكي السوفييتي، وبقليل من البحث يتبين أن كل انعطاف تاريخي عالمي كان انعكاساً لأزمة مراكز رأسمال العالمي. فالحرب الأولى كانت متزامنة مع الأزمة التي اتضحت في عام 1919 والحرب الثانية انعكاساً لأزمة 1929 ... كل التحولات النوعية آنفة الذكر في المنطقة كانت انعكاساً للحربين الكونيتين... نختصر ونقول إن كل ما جرى في شرق المتوسط خلال القرن الماضي كان امتداداً لما يجري على المستوى العالمي بعد دخول الرأسمال مرحلة الامبريالية، وبعيداً عن الفهم السطحي لنظرية المؤامرة بالشكل الذي يتحدث عنه إعلام الأنظمة بغية تبرير قمع حركات الشعوب، فإن فهماً حقيقياً لما يجري الآن واحتمالات تطوره في شرق المتوسط يجب أن يستند إلى فهم ما هو أعمق وأبعد، أي فهم التأثيرات الاقتصادية والسياسية والعسكرية للقوى المهيمنة على النطاق الدولي على المنطقة ومستوى علاقة الكومبرادور المحلي معها، بعد أن حاولت وتحاول دمج العالم قسرياً خدمة لرأس المال وتركزه وتمركزه في هذا القطاع أو ذاك أو في هذه الدولة أو تلك.
إن رأس المال العالمي وبالتعاون مع النخب المحلية آنذاك استطاع سرقة الموجة الثورية الأولى التي انعكست في الثورة العربية الكبرى ومحاولة التخلص من النير العثماني، واستثمرت لمصلحة المشروع الغربي الرأسمالي، أما الموجة الثانية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية التي تجلت بصعود البرجوازية الصغيرة ومحاكاتها للشعارات ذات الطبيعة الاشتراكية، تم تأريضها أيضاً لصالح المشروع الرأسمالي، وخصوصاً بعد التغيير الدراماتيكي في ميزان القوى الدولي عقب انهيار الاتحاد السوفييتي.
الحاضر امتداد
للماضي بأشكال أخرى
واليوم في ظروف الأزمة الراهنة المتدحرجة، في عموم بلدان شرق المتوسط التي تعتبر الأشمل والأعمق والمفتوحة على احتمالات متعددة، لايمكن قراءة الموقف قراءة موضوعية دون فهم حقيقة ما يجري في المراكز الرأسمالية من أزمة بنيوية ربما تودي بكل المنظومة، ودون فهم انعكاسات ذلك على الدور الذي يمكن أن تلعبه المراكز الرأسمالية العالمية والأمريكية منها على وجه الخصوص في محاولة التحكم بما يجري في بلدان الشرق، فهذه الساحة هي البيئة المناسبة لتفريغ الأزمة وإطالة عمر رأس المال بحكم ما فيها من ثروات هائلة من جهة، وبحكم مستوى التناقضات متعددة الإحداثيات التي تعصف بكل دول المنطقة القابلة للانفجار والصراعات الداخلية من جهة ثانية، وذلك بعد عجز نموذج الدولة الوطنية السائد عن إنجاز مهام مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية، وخصوصاً فيما يتعلق بعملية الانفكاك عن المركز الرأسمالي.
أريد القول إن الأزمة في الأطراف اليوم هي من جهة نتاج طبيعي لشكل تطور رأسمالية بدائية تابعة يتداخل معها بقايا الفكر الظلامي، والجوانب الأكثر رجعية في التراث العربي الإسلامي، ومن جهة أخرى نتيجة محاولة الغرب تأريض أزمته الراهنة في هذه المنطقة، كما فعل في موجات ثورية سابقة.