من الذاكرة الإضراب

عندما كنا طلاباً في مرحلة التعليم الابتدائي في أربعينيات القرن الماضي، كنا نشارك في كثير من الإضرابات والمظاهرات الشعبية ضد الاحتلال الفرنسي. ومن تلك المرحلة الغابرة علقت في الذهن أحداث لا تنسى ومنها على سبيل المثال الذكريات التالية:
في حينا الشعبي حي الأكراد بدمشق مدرستان ابتدائيتان هما مدرسة الصاحبة ومدرسة الملك العادل وقريباً من أطراف الحي الملاصقة لحي الصالحية مدرسة الرشيد. وكانت هذه المدارس هي الوحيدة في المنطقة المذكورة، ولا وجود لمدارس إعدادية أو ثانوية، لا في حينا ولا في باقي أحياء المدينة، وفي وسط المدينة تنتصب التجهيز الأولى (إعدادي وثانوي) وإليها يفد الطلاب من كل أنحاء المدنية.

أيامها وتحت تأثير الحركة الوطنية الناهضة في وجه الاحتلال الفرنسي لبلادنا، كنا كطلاب نشارك في الإضراب، ولإضرابات المدارس الابتدائية شكلها البسيط ونكتها الطفولية الخاصة. وكانت الإضرابات في أحيان كثيرة شبه يومية، حيث يقوم طلاب إحدى المدارس بتحريض غير علني من أحد المعلمين الوطنيين بالصياح داخل المدرسة ثم يندفعون إلى الخروج منها إلى الطريق الرئيسي في احلي، ورغم محاولة آذن المدرسة في الحيلولة بيننا وبين الخروج، سرعان ما يفسح المجال أمامنا وكأنه لا يستطيع وقف سيلنا المندفع وفي الطريق نحو المدارس الأخرى يعلو الصياح مع قذف بعض الحجارة على بعض الدكاكين والمحلات التجارية داعين أصحابها إلى إغلاقها، والصياح الغريب الذي نردده: ياعر... سكر سكر. وحين نصل إلى المدرسة الثانية يعلو صراخنا ونحن نقذف باب المدرسة بعض الحجارة «ما منروح إلا فيهن» أي لا نغادر مكاننا قبل أن يخرج طلاب هذه المدرسة، وبالفعل يضطر إداريو المدرسة إلى ترك طلابهم يخرجون لينضموا إلينا وهكذا إلى أن نصل إلى المدرسة الثالثة.
ولعل أهم مشاركة لنا تلك التي مازالت محفورة في الذاكرة، حين هب رجال وشباب الحي في مظاهرة هادرة ضد المحتلين الفرنسيين، وما إن اقتربوا من مدرستنا حتى كنا في أوجه حماسنا فانطلقنا لننضم إلى صفوفهم وسرنا خلف الكبار باتجاه حي الصالحية المجاور حيث اندفع رجال وشباب هذا الحي العريق ليدعموا المظاهرة التي واصلت طريقها عبر سوق الجمعة مروراً من أمام جامع الشيخ محي الدين بن عربي إلى منطقة الشركية ومن جادة «بوز الجدي» اتجهت نزولاً باتجاه الجسر، ومن شرفة مئذنة جامع الجسر حيث يقف أحد جنود الاحتلال وراء رشاشه انطلق الرصاص بغزارة على المتظاهرين الذين كان يهتفون بالشعارات الوطنية: الله يعزك سورية.. الله يعزك سورية.. يا منبع الحرية.. وديغول خبر دولتك باريز مربط خيلنا.
وأصيب عدد من المتظاهرين بجراح مختلفة وتفرقت المظاهرة في أزقة الحي على ذلك الشكل المأساوي الذي مازال حياً في الذاكرة وفي القلب.