مشردوا حرب افترشوا الأرصفة.. ورسمياً نعتوا بـ«المتسولين»!

مشردوا حرب افترشوا الأرصفة.. ورسمياً نعتوا بـ«المتسولين»!

في البرامكة وشارع الثورة والمرجة، وبدمشق ومحيطها عموماً، على الأرصفة وفي الحدائق، افترش مشردوا الحرب الأرض مع أطفالهم، ليحاربوا الحرب ومفرزاتها أولاً، ثم تقلبات الطقس المختلفة والحيوانات الشاردة والحشرات. 

 

خسروا أعمالهم ومنازلهم، ومنهم من خسر عائلته ووثائقه الثبوتية، ومنهم من أضاع سبل التواصل مع أفراد أسرته، ولا يعلم عنهم شيئاً، وآخرون أضحوا مشردين مع أطفالهم يسألون القاصي والداني عن مساعدة، علّها تعينهم في تأمين لقمة العيش.

«ميتين من الجوع»

«ميتين من الجوع»، هكذا بدأ أبو عماد (50 عاماً) حديثه، وهو نازح من ريف حماة، ولا يعلم شيئاً عن عائلته بعد النزوح.

يقول أبو عماد: «سنوات وأنا هنا في شارع الثورة، ولم يساعدنا أحد، ولم أحصل على أي شيء، سوى بطانية قدمها أحد أصحاب الخير».

أبو عماد سينام «تحت المطر» كما كان ينام في السنوات السابقة، وكما ينام غيره من المشردين في المنطقة ذاتها أو غيرها. 

وعند إكمال الجولة، رفض البعض التحدث معنا، بحجة أنهم «تحولوا لمواد مكتوبة في الصحف دون أن يحصلوا على أية مواد عينية، أو مبالغ مالية، أو مكان للسكن، أو شيئاً يذكر».

أحد الطاعنين في السن أيضاً، والذي رفض الكشف عن اسمه، أو حتى الحديث عن حاله، واجهنا بالقول: «خلينا بحالنا أحسن، مو شاطرين غير بالحكي، حكيتوا معنا مية مرة ولا شفنا شي، قلتولنا سجلوا بالجمعيات سجلنا وما شفنا شي، صرلنا 4 سنين على هالحالة»، في إشارة إلى أدوار إعلامية سابقة مرت على حاله وبؤسه.

«ساعدونا يا عمو.. والله برد»

رغم رفض هذا الكاهل للحديث معنا بدايةً، إلا أنه لحق بنا وقال: «ياريت تساعدونا ياعمو وماتتركونا بهالوضع، والله صار برد، ومامعنا ناكل، وصرنا نشحد غصب عنا».

 كلامه كان موجعاً فعلاً، فنحن نتحدث على بعد أمتار من وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، وعن محافظة دمشق، وهذه الجهات المفترض أن تكون معنية بحالهم.

3 أشهر وهو يفترش حديقة المرجة و«ماحدى سأل عليه» على حد تعبير أبو عبدالله النازح من تدمر، ويقول: «بدي سقف أنا ومرتي وابني بس ماشفنا شي، حالتنا بالويل، مصاري ما معنا، قدمنا على جمعيات وما أخدنا شي».

أمرأة أخرى في العقد الرابع من العمر، أيضاً لم تكشف عن اسمها، وهي متواجدة أيضاً في المرجة قادمة من حلب، وقالت: «6 سنوات وأنا هون مع ابني اللي كان عمره 7 شهور، وما بعرف شي عن جوزي، أحياناً في ناس بتساعدنا وأحيانا لا،  بس وزارة الشؤون ما ساعدتنا بشي».

وتابعت، وقد استعدّت دموعها للانهمار: «وراقي ضاعت، وما قبلونا بمراكز الإيواء، بشتغل بلم البلاستيك، وأحياناً بشحد لطعمي ابني وجبلو حليب وحفاض، ساعدونا الهلال سابقاً بعدين وقفوا».

لا يوجد شواغر

مصدر في إحدى الجمعيات الخيرية، أكد لـ «قاسيون» أن الهلال الأحمر كان يملك فرقاً جوالة لالتقاط المشردين في الشوارع، وأخذهم إلى مراكز الإيواء، لكن هذه الفرق توقفت عن العمل مع بداية العام الحالي، ولا نعلم ماهو السبب بالتحديد، لكن غالباً هو اكتظاظ هذه المراكز بالأسر وعدم وجود شواغر».

وتابع: «بعض مراكز الإيواء تساهم في زيادة نسب التشرد، ومفاقمة الحالة السلبية التي يعيشها بعض النازحين، وذلك بطرد من يخالف القوانين خارج المراكز، دون محاولة إصلاحهم أو تأهيلهم، وبهذا التصرف تشرذم العائلة وتزيد معاناة الفرد المطرود».

ويقول المصدر، إن إحدى الفرق التطوعية، حاولت سابقاً العمل على الأطفال المشردين جميعهم تحديداً من الشوارع، وإخضاعهم لورشات عمل تأهيلية، لكن للأسف، يتم إعادة الأطفال إلى الشارع بعد انتهاء الورشات، نتيجة عدم وجود مكان يأويهم، أو مراكز تأهيل لهم.

متسولون!

وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، تنظر لهؤلاء على أنهم متسولين، رغم أن الظرف الذي دفعهم إلى ذلك هي الحرب وحدها، فمن التقتهم «قاسيون» جميعهم جاؤوا من مناطق ساخنة خلال الحرب، بعد أن خسروا ممتلكاتهم، وأجبروا على التسول نتيجة تقصير وزارة الشؤون الاجتماعية ذاتها، ووزارة الإدارة المحلية، وحتى الجمعيات الخيرية، التي ترفع شعارات مطاطة وعريضة، لتحصل على تبرعات بملايين الليرات.

مديرة الخدمات بوزارة الشؤون الإجتماعية والعمل، ميساء ميداني تقول في حديث إذاعي: إن موضوع مراكز الإيواء حالياً ليس بيد وزارتها، بل تحول هذا الملف برمته إلى وزارة الإدارة المحلية منذ عام ونصف تقريباً، كونها برئاسة اللجنة العليا للإغاثة.

لكن حتى تحويل الملف إلى وزارة الإدارة المحلية، لا يرفع المسؤولية عن وزراة الشؤون، التي كان الملف بيدها طيلة السنوات السابقة، فالمشردون موجودون في الشوارع منذ بداية الحرب.

وتضيف ميداني: «هناك مركز في الكسوة لتأهيل المتسولين، لكنه تحول إلى مركز للإيواء، وحالياً نعمل على إفراغ قسم منه للمتسولين وإعادة تأهيلهم من جديد ضمن خطة واسعة بالتعاون مع الهلال الأحمر والجمعيات الأهلية»، مشيرةً إلى أن: «الوزارة تعمل على تأهيل مركز لمكافحة التسول في قدسيا كان مخصصاً لأصحاب الاحتياجات الذهنية الخاصة».

وزارة الشؤون تصرّ على إدراح المشردين ضمن تصنيف «المتسولين»، ورغم ذلك، هي لم تستطع تخصيص مكان لهم طيلة فترة الحرب، فبقيوا مفترشين العراء منتظرين «خطط ودراسات» الجهات الحكومية، ومحكومين بـ «بيروقراطية» العمل الرسمي، الذي أضعف دور الجمعيات والجهات الرديفة الأخرى.

فرز طلبات

بعد تحول ملف الإيواء إلى وزارة الإدارة المحلية، تشابكت الملفات، وتوضٍّح ميداني: «نفرز الطلبات التي تقدم لنا، ونرسل ماهو من اختصاص الادارة المحلية إليهم، ونعتني بما هو ضمن مجال عملنا، وهي الحالات الصعبة كالأطفال دون نسب وغير المصحوبين مع ذويهم، والمسنين، والعائلات التي تحوي أطفالاً، وذوي الاحتياجات الخاصة».

إذن، أغلب الحالات في الشوارع، هي من اختصاص وزارة الشؤون نتيجة للفرز الذي أعلنته ميداني، رغم محاولتها نقل الملف إلى الإدارة المحلية، لكن، قضية المساعدات، التي يجب أن يحصل عليها المحتاجون كلهم، هي فعلاً من اختصاص الإدارة المحلية، ومن ثم الجمعيات الخيرية التي تعمل بالتنسيق معها.

وهنا تكمن مشكلة أخرى، أن أغلب من ارتموا  في الشوارع، فقدوا وثائقهم الثبوتية، والتسجيل على المساعدات يتطلب بالدرجة الأولى وجود هذه الوثائق، وأيضاً، لم يسبق وأن قامت إحدى الجمعيات، أو وزارة الإدارة بجولة على المشردين، لتوزيع سلل غذائية، أو بطانيات وما شابه، بحسب من التقتهم «قاسيون» جميعهم، بينما اقتصرت المساعدات لمن هم ضمن مراكز الإيواء والنازحين ممن يقطنون ضمن منازل مستأجرة، وتميزوا باحتفاظهم بوثائقهم.

ورغم وجود مشكلة الوثائق، إلا أن ميداني طالبت ممن يريد مركزاً للإيواء، بالتقدم بطلب إلى مركز المحافظة التي يتواجد فيها أو وزارة الإدارة المحلية، ومن تندرج حالته ضمن الحالات التي تعتني بها وزارة الشؤون، بالتوجه إلى مديريات الشؤون الاجتماعية، أو النافذة الواحدة في الوزارة «مصطحبين الوثائق الثبوتية»!

سؤال كبير!

لكن، مافائدة هذا الإعلان إن كان هؤلاء لم يتعرضوا إليه؟، وما فائدة هذا الإعلان من أساسه إن كانت وزارة الشؤون لا تملك مراكزاً لتأويهم بعد؟، وما فائدة هذا الإعلان أيضاً، إن كان أغلب المشردين لا يملكون وثائق ثبوتية؟، ومافائدة هذا الإعلان أيضاً، إن كان مسمى هؤلاء هو «متسولين» بدلاً من «مشردين»!؟

أسئلة عديدة تطرح دون إجابة، ومشكلة كبيرة قائمة دون حلول.

بالمحصلة، سؤال كبير في فم هؤلاء «المشردين عنوةً»، مر عليه أعوام وأعوام، أين هي الدولة منهم ومن معاناتهم؟!.