مطبات: الهالووين
هنا حيث نحن نعيش، هنا فقدنا الدهشة وحس المباغتة، لا قصيدة تبهرنا بصورها وعنادها، لا كتاب نخفيه في ورق الجرائد، ولا موسيقى تحيلنا كورقة في مهب الشرود، لا خبر يثير فينا الركض.. سوى امرأة ما زالت تأمل باشتعال الرماد فينا.
امتلأت شوارع دمشق بالاحتفال الذي سيقام في أحد الفنادق الكبيرة بمناسبة عيد (الهالووين)، ونشرت في اليوم التالي صحف محلية فعاليات الاحتفال، وجوه مقنعة بالرعب، ونساء يشبهن الفزّاعات، ورجال كالسحالي والقتلة، وأضواء معتمة وظلال مريبة.
سألت، وقرأت، ما هذا الاحتفال الوافد، ليس دفاعاً عن ثقافتنا ففيها من الشوائب ما لا يمكن أن تعكره سهرة في فندق فخم، أو لقاء العشرات على طاولات غريبة، لكنه الخوف الذي صار يعترينا على غد لا هوية لنا فيه.
عقود مرت من عمرنا المرمي على الطرقات حيناً، والأمل حيناً آخر، لم نسمع بالهالووين إلا عبر الأفلام الأمريكية وتحديداً أفلام الرعب التي تبثها الـmbc2 ليل الثلاثاء من كل أسبوع، الوجوه البلاستيكية، الأفواه الفاغرة السوداء، الطعنات المسلولة، الذبح، البيوت النائية في ليل ممطر.
أحد الأصدقاء قال لي إن يوم الحادي والثلاثين من تشرين الأول هو عيد جميع القديسين، أما الهالووين فهو طقس أمريكي خالص، نحن (..) في هذا اليوم نحتفل بالذهاب إلى الكنيسة وإقامة الصلوات، والدعاء.
أما عن حكاية القناع المرعب فتروي صديقة أنه يرتبط بعيد آخر هو عيد (بربارة)، بربارة الفتاة التي أرادت أن تترك الوثنية على يد أحد الدعاة المسيحيين، ولكي تهرب من جور أبيها الوثني اضطرت أن ترتدي قناعاً، ومن هنا أتت حكاية القناع، وفي الشرق لا توجد مثل هذه الطقوس حتى في عيد (بربارة).
أبناء هذا الشرق منذ أن كان الشرق.. لهم نكهتهم وطعمهم، طقوسهم وعباداتهم الخاصة، تراتيلهم وترانيهم، لهم هزائمهم وبكاؤهم، انتصاراتهم وأهازيجهم، رسلهم وكتبهم، نشيجهم، آهاتهم، لهم الشرق بكل ما فيه من خشوع، حضارات، بغاء، شر، عبودية، موت، انتعاش (أدونيس) وحضوره من الغياب، (السمندل) واحتراقه.
هنا في هذا الشرق يستيقظ نيسان بأسطورته، ويختلط مع ما جاء به الأعراب من عادات وأخلاق، تتعانق الإشارات والسجود، الأجراس وإيقاع النهوند والحجاز، المقامات، الأعراس والجنازات، الجدران المزخرفة المنتشلة من الطين مع سور دمشق وجامعها الأموي.. هنا في هذا الشرق صوت خاص لا يتكرر.
الهالووين ليس الوحيد الذي يخترق خصوصيتنا، العادات الجديدة والطارئة، اللباس الذي لا يليق بمفاهيمنا عن الإنسان والحياة، الوجبات السريعة التي تصنع الأمراض القاتلة وتفصم عرى العلاقات الاجتماعية التي كانت توفرها جلسات الطعام العائلية، الموسيقى التي نأت بجيل من الشباب عن تراثه وأذنه، الموسيقى القاتلة التي أخذت شباباً بعمر الورد إلى حافة الانتحار والجنون، موسيقى (الميتال) الصاخبة التي تخلق أجواء الرذيلة والجنس الجماعي والمثليين واللواطيين، الميتال الذي يؤسس لجماعات عبادة الشيطان، الفتيات والشبان الذين يرتدون السواد ويرخون الشعر واللحى، بسراويلهم الضيقة المتهدلة، الأظافر الطويلة، القلائد الموشومة بالشيطان والأفاعي.. جيل يمشي إلى الحافة التي يحذر منها الغربيون أبناءهم، جيل ينفصل عن أسره بينما الغرب ينادي بعودة الجيل إليها.
الأخطر أن هناك مؤسسات باتت ترعى هذا القادم وعلى العلن، باتت تستثمر ما يلقيه إلينا الغرب في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى خصوصيتنا، نحن أحوج في هذه اللحظات التي تقودنا إلى المجهول إلى أن نعيد ترتيب بيتنا، رسم هويتنا التي تتمزق، احتضان أبنائنا الذاهلين، الذاهبين إلى الحافة، إلى حيث الأقنعة السوداء، والنشوة العابرة، والعبور عبر إغفاءة ثملة إلى الجنون.