مطبات: الأيام العائمة

دمشق يبللها المطر، منذ وقت لم تغتسل من هباب السيارات والغبار والمشاريع المتكررة في شوارعها، الشجر عاد إلى لونه، رائحة الأرض تخلصت مما علق بها من أفعالنا وأعمالنا، الهواء الساكن يكاد يفتح صدرك المغلق بالنيكوتين والتوجس.

رغم كل هذا الفرح السري، وهذا الانتعاش الخارج عن لهاث التساؤل عن الدعم وقرارات الحكومة المنتظرة، رغم ذلك لا بد من انتكاسة تحيل الاغتباط المسروق إلى خيبة.
الطرقات التي تقود الذاهبين إلى بيوتهم، الطرقات التي يدفع الناس الضرائب لقاء أن تصح عليها التسمية، الطرقات غرقى، والناس يحاولون الوصول إلى من يقلهم إلى بيوتهم دون بلل.
من قلب دمشق إلى السومرية مشوار مبلل يحتاج إلى أكثر من ساعة، بحيرات تجمعت في الأنفاق التي تفاجأت بالمطر، الساحات تفيض على جوانبها، والسيارات تزحف كسلحفاة في الماء الذي لم يجد منفذاً ليغادرها.
في السومرية الناس المبللين تذكروا ساعات الانتظار التي كانوا يقضونها من أجل مقعد يحمل جسدهم إلى البيت، حيث لا دفء ينتظرهم، فالحكومة ما زالت تدرس كيف ستدفع لهم العشرة آلاف ليرة قيمة الدعم.
من باب الكراج إلى أمام المحلات التي استظل البعض بها طابور من البشر العالقين، السيارات التي تدور لتصل إليهم عالقة في بحيرة الماء أمام إشارة مدخل السومرية، هناك حيث الشرطة وصهريج المحافظة يحاول شفط ما يمكن من الماء المتجمع، وورشة تحاول جاهدة فتح ما أغلقه الإهمال من مصبات الصرف، ومحاولات من المواطنين والشرطة لإخراج السيارات التي انطفأت محركاتها، والبعض يصدر تمتمات غاضبة.

في هذا الانتظار الطويل فسحة (لفش) القهر، ماذا كانت تفعل هذه الورش في الصيف؟ ماذا كانت تفعل المحافظة التي تصدر التصريحات عن حجم أعمالها، مشاريعها المنفذة، خططها المستقبلية، ندواتها، اجتماعات مكتبها التنفيذي؟ الأشهر الطويلة من الحفر والنبش في الشوارع، لافتات متعهدي مشاريعها (نحن نعمل لأجلكم.. نأسف لإزعاجكم)، إعادة تعبيد الشوارع ثم حفرها مجدداً من أجل توسعة مشاريع المياه والصرف الصحي والهاتف والكهرباء، مشاريع البنية التحتية التي يفضحها حسب تصريحات الأرصاد الجوية 20 مم من الماء السماوي، ماذا لو كانت عاصفة صغيرة؟ ماذا لو كان إعصاراً؟ ماذا لو استمر المطر بالانهمار أكثر من ذلك.
في ريف دمشق كان الوضع أشد سوءاً، الأمطار كانت أكثر غزارة، وللأمانة ما يخفف وطء السيول الجارفة هو تواجد محافظ دمشق في الأماكن المتضررة، على الأقل هناك من يسأل، كبير مسؤولي المحافظة يهتم.
في ريف دمشق تقطعت الطرق في خان الشيح ودروشا، وفي قطنا دخلت مياه الصرف الصحي بيوت الناس، وغرق الدواء في مستوصفها، والبلدية بفوج إطفائها في إجازة مزاجية، الإطفائية معطلة لذا تم الاستعانة بواحدة من داريا، واعتبر رئيس مجلسها المحلي ما خربته الأمطار من خير الله، ولم يذكر المشاريع الخائرة التي  سببت الأضرار، ونسي المستفيدين من تنفيذها بهذا الشكل السيئ، وكأن خير الله يعفي الجميع من مسؤولياتهم.

الملاحظة التي تلفت الانتباه هذا العام أن المطر لم يدفع الناس للتجمهر أمام الكازيات، منظر أرتال الكالونات البلاستيكية ما زال غائباً حتى الآن، يقول الناس إنهم ينتظرون الدفعة الموعودة من الدعم المالي، وأن ليس بالإمكان شراء الكالون سعة 20 لتر بـ 400 ليرة سورية، وحكاية (تمشية الحال) لم تبعث الدفء في بيوتهم، والبعض سيضطر لسرقة خط كهرباء، وماذا سيفعل لو انقطعت الكهرباء، يجيب أبو علي الذي لن يحصل على الدعم لأن لديه ما يشبه سيارة موديل السبعينات: النوم باكراً وإسدال اللحاف الصوفي ريثما يفرجها الله.

المطر كما كل الأشياء التي كانت تثير الفرح.. لم يعد كذلك.