اللقاء الأخير.....
العمر قصير بمعيار الزمن، وهناك فرق مابين العمر والحياة. العمر يقاس بالسنوات أو بالأشهر.لكن الحياة تقاس بالتجارب والخبرة ، والتفاعل الحي والتأثير المتبادل.
وعمرك يا أبا المجد بمقياس الزمن هو حياة زاخرة بالعطاء والوفاء، هي حياة تميزت في الكثير من الأحيان كونها صانعة الحدث.،مليئة بالتجارب ، فطوبى لك ،وطوبى لعمر كانت حياته طويلة وغنية.
كان لقائي الأخير بأخي المرحوم سهيل قبيل وفاته بليلة واحدة كنا في غرفته في المستشفى وحيدين، طلب مني أن نجلس معاً على المقعد المجاور لسريره، بصعوبة استطعت رفع قدميه المتعبتين وسرنا خطوات وما أن اقترب من المقعد حتى ارتمى ليأخذ وضعية المستلقي والجالس بآن واحد.. كانت نظراته تجول وتبحث في تفاصيل ما حوله.ثم نظر إلى جسده ، ومن ثم إلى قدميه ليرى شرايين الدم التي بدأت تتفجر مشكلة بقعاً حمراء اللون وكأنها تنذر بحلول الآجل.أمسك بيدي وضغط عليها بكل ما استطاع من قوة، وكأنه أراد أن يقول لي أنه ما زال قوياً وزاد من الضغط حتى أدركت أن هنالك خواطر ما تتفاعل في داخل هذا الجسد الضعيف والمن! هك والقوي بآن واحد.
وبصوت متقطع بادرني القول: يا أخي ... انظر إلى هذا الجسد !!! وفعلاً نظرت إلى جسده من أخمص قدميه حتى عيونه المتعبة. آلمني صمتي.... لكنه تدارك ذلك بقوله: هذا الجسد ما عاد يعنيني بشيء ، انظر إليه إنه في طور الفناء.
أجبته بهدوء وأنا أعلم وهو يعلم أن كلماتي هي الآن للمجاملة فقط، لأن الحكم قد صدر (من بعد عمر طويل يا أخي )..
التفت إليّ وابتسامة الألم تزين ثغره المصفر. وتابع... صدقني بمقدار ما يموت هذا الجسد فإنه ينتابني شعورً بأن عقلي وذاكرتي قد كبرت وأصبحت قوية بشكل أصبحت معه أتذكر كل شيء قرأته، كل شيء كتبته حتى صرت أشعر بثقل توارد الأفكار والحوادث، إن رأسي أصبح ثقيلاً جداً ....
وفجأة نظر إليّ بدهشة قائلاً هل قرأت آخر مقال كتبته؟. أجبته لم أقراه ...... هز برأسه وبنبرة قوية وكأنه استجمع قواه الكامنة التي أصبحت نادرة في جسمه المتعب، وبصوت منهك أعلمني أن المقال كان تحت عنوان (الشيوعية أقوى من الموت) سألته عن قصده وأنا أمسح على رأسه وعلى وجنتيه وقلبي كاد يتقطع... صمت طويلاً وتابع قوله: قد تموت الأجساد وتفنى لكن أصحاب النظرية الشيوعية من العمال وا! لفلاحين والفقراء والمساكين سيبقون أحياء جيلاً بعد جيل ، والشيوعية هي ا لنظرية التي مهما تغيرت الأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية ،ستبقى الوحيدة التي تدافع عن مصالحهم بصدق وأمانة، لهذا فإنّ الشيوعية هي أقوى من الموت .وعاد الصمت مرة أخرى سيد الموقف، وغارت العيون المتعبة وتلاحقت الأنفاس التي ترافقت بشخير بسيط، ومن جديد مسك أصابعي وشدّ عليها وهو يراقب بقع الدم التي ازدادت انتشاراً على ساقيه، تكسرت وتلعثمت الكلمات في فمي وما عدت أدري كيف أبدأ الحديث ،ودموعي المتدفقة من عيوني حبستها بقوة حتى أتعبتني لأنني كنت أدرك أن بكائي لا معنى له أمام صموده وتحدّيه الألم.ومرة أخرى التفت أليّ قائلاً: هل تعلم يا أخي أنني تخلصت من ساعة اليد لأن الزمن ما عاد يعنيني بشيء، الليل ، النهار ، الصبح ،والظهر والعصر أصبحت بالنسبة لي مسميات لا معنى لها.والمادة ما عادت تعنيني بشيء. اشعر وكأنني تحررت من قيود كثيرة ، أصبحت أكثر حرية .وتابع صمته بقول جملته الأخيرة (هل أنت حزين يا زهير؟) نظرت إليه وقلت في نفسي آه... لو تعلم كم كنت أتمنى في تلك اللحظة أن أفديك بشيء من عمري، لكنها مسيرة الحياة، وهل يحزن الإنسان عندما يرى هذا الفكر وهذا التحدي، وهذه الحياة المليئة بما يفخر به كل من عرفك يا أبا المجد. فطوبى لحياة كانت كلها عطاء.