مطبات:عن امرأة.. ومرتعشة أيضاً
ليست امرأة خارجة عن السيطرة، وليست أحجية أو لغزاً، أو دفتر سحر عتيق، أو أيقونة في صدر حورية دخلت في اليم ولم تعد، لكنها عادية كالفوضى، متسرعة كمراهق يتشاجر مع لباسه، شعره، هادئة كلغة ناسك هندي.
المرأة التي تمسك بتلابيب الوقت الآن تشير إلى بلد صار فيه المثقف مجموعة تلهث وراء رغيف الخبز، هوت كل شعاراته في الدفاع عن قضية يتبنى مفرداتها، وصارت مجموعة مصطلحات الزمن من فساد، مال عام مهدور، الغلاء، الناس بمفردات عيشهم، مجرد حكايات تجلب بعض النقود.
تصيح بوجه حاجتها، أكتب الآن لأدفع إيجار غرفتي مناصفة مع صديقتي، لأشتري حقيبة تليق ببنطال الجينز، قطعة قماش للقليل من أنوثتي، القليل لمشوار مسائي برفقة صديق، مواعدة مجنونة، أو انزواء مخاتل.
صارت كل الآمال أقل من الطموح الذي يساورها عندما تنظر في مرآتها، دخلت دون أن تدري عقدها الثالث، ودون أن تدري صارت وحيدة في قلب هذي (الدمشق المضطربة)، وعاشقة مضطربة، دخل القلب في نفق المال أيضاً، ضاعت بوصلة الارتعاش، ومن طفولتها لم يبق سوى وشم على شفتها العليا يصهل كلما ابتسمت من قلبها.
دون وجل تتحدث عن زمنها، أليست الصحافة مهنة للحياة أيضاً، وأن لا شيء يمنع من أن نكون أصحاب مبدأ ونجني بعض المال كي لا نقف على أبواب أمراء المال الجدد، أليس قدراً قذراً أن أتكئ على ذراع مفلسة، أليست جريمة أن أقف في باب محتال للعمل كسكرتيرة دون خبرة، ومرافقة في نزوات أحمق قاده مال مشبوه ليسهر في فنادق الخمس نجوم، ويتحدث عن الوطن من منطلق الحرص، وعن الفقراء بنظرة استعلاء، وعن الثقافة كفائض.
صاحت في وجه الألمعي: ماذا صنعت بكل انتصاراتك الصحفية، هل تستطيع الآن أن تأخذ أبناءك إلى البحر لخمسة أيام فقط وتستجم في أرخص مكان على ساحلنا الكبير؟ هل بإمكانك أن تعد لروحك كأساً في فندق من نجمة واحدة؟ ماذا صنعت بكل المقالات التي كتبتها عن الفساد وآله، عن المرتشين، عن لصوص النهار، عن القرارات الجائرة والظلم المبين؟ ماذا فعلت بكل زهوك عندما يطري عليك قارئ لا يستطيع أن يدافع عن نفسه، بالغرور الذي يتأتى من مديح صديق أو عابرة؟
تهدأ الثائرة وبصوت خامد كبركان شاهق: أتمنى كقارئة أن أفعل ما فعلت، لكنني لا أملك الجلد لقراءة كتاب، أو تصفح رواية حب، لا أملك الجلد حين يصل أول الشهر ولا أجد أجرة غرفة بائسة، لا أستطيع أن أمد يدي من أجل دَين بسيط، لا أحتمل نظرات الزملاء عندما يحين دوري في دفع ثمن فناجين القهوة في مقهى على رصيف.
تستطيع المرأة الصغيرة اختصار أوجاعنا نحن الكبار في إغفاءتها على الكرسي المجاور، تبوح بجرأة مخيفة عن أشيائها الصغيرة الكبيرة، ترسم صورة واقعية لما يعتصرنا حين يصير الحرف ممارسة يومية من أجل شراء وجبة غداء للعائلة، وتصير المقالات والتحقيقات عبارة عن وجبات، هذا التحقيق من أجل فاتورة الكهرباء، وذاك من أجل فاتورة الهاتف الجوال، هذه المواد السريعة للباس المدرسة حينما يباغتنا أيلول، هذا الشهر سنكرسه للمونة.. تقاسمتنا الحاجات.
ربما أيتها الوجلة، الخائفة، والمرتعشة.. ربما خشيتك ورهبتك ومخاوفك في مكانها، وربما هواجسك عن الحياة والجوع، عن الآمال الصغيرة، عن المحاولات اليائسة، التحرشات، الوسط الذي يغص بالمنتفعين، وربما يعز عليك أن تطرقي باب أحد، وأن تغمزي من أجل إيجار الغرفة، أو تواعدي لمجرد عشاء. نعرف يا صغيرة أن الوطن يضيق علينا من هول الحاجة، لكننا نتسع من أجل أن نكون نحن، دون رتوش، ودون أن ترتجف شفة لنا على باب، وأن قلوبنا الخضراء ما زالت تغني كما بالأمس أغاني الصيادين (هيلا)، أغاني الصباح، وتشد على يدك الناعمة وأصابعك الطويلة كامرأة من الجنوب لا تغفر إلا لمن يستطيع أن يحتفظ بياسمينتها الوحيدة.