صفربالسلوك طبقات المدخنين
ربما تكون كلمات (كنت... بولمول... مالبورو... ونستون) هي أشهر كلمات مسموعة في مدينة حلب خلال فترة السبعينات. هذه الجملة كان يرددها باعة التبغ المهرب في الشوارع المزدحمة. ولعل شارعي السينما (بارون والقوتلي) هما المكانان المفضلان لبائعي الدخان المهرب المختلطين بباعة الجينز المهرب والأحذية المهربة والصحون المهربة أيضاً.
وعلى الرغم من العداوة المبطنة التي يكنها بقية المهربين لمهربي التبغ حصراً، إلا أنهم يتفقون على أشياء كثيرة قبل بدء يوم العمل الشاق. ففي الصباح توزع كلمة السر على جميع المهربين المقيمين في شارع القوتلي أو شارع بارون. وهي كلمة تستخدم عند مجيء دورية شرطة المكافحة. فما إن ينادي أحدهم بكلمة السر، ولتكن (وليد) حتى يختفي المهربون بلمح البصر وهم يصرخون (وليد... وليد) كي يختفي من لم يسمع الإنذار. وهكذا تتجول دورية الشرطة ببلاهة بين المارة وتمضي خائبة، ثم يرتفع صوت من جديد «وليد... وليد» فيعود المهربون إلى الظهور بضجيجهم المعهود، فنعود نسمع الكلمات الشهيرة (كنت... بولمول... مالبورو... ونستون).
في منتصف السبعينات كانت الحكومة السورية تستورد كل أنواع التبغ ما عدا المارلبورو والونستون الورقي، بينما كان ونستون الكارتوني موجوداً لدى الباعة النظاميين. وكانت مسابقة تاج ونستون تشمل التاج الموجود على الونستون الورقي أيضاً، على الرغم من كونه مهرباً. وربما كان مرد عدم استيراد الونستون الورقي الى صفقة غامضة لترويج الونستون الكارتوني والذي ثبت قدم تبغه وتعفنه. وكانت عبارة (ونستون... الكمال بالمتعة)، التي تبثها اذاعة مونت كارلو ضمن الإعلان عن مسابقة التاج، أكثر عبارة منافسة للجملة الأخرى الشهيرة: (تعال الى حيث النكهة... تعال الى مارلبورو). ويكتمل الفيلم السينمائي التبغي بصورة جياد مارلبورو الشهيرة أو بصورة رجل وسيم يشعل سيجارة الونستون من عود طبيعي مشتعل.
وعلى الرغم من مناداة البائع (كنت بولمول مارلبورو... ونستون)، فليس بالضرورة أن تجد كل الأصناف هذه لديه. فمن الممكن أن تسأله عن علبة (كنت) فيقول لك: (ما في كنت)، ثم يمضي وهو ينادي: (كنت بولمول مالبورو... ونستون). ومن الممكن أيضاً أن تجد لديه أصنافاً اضافياً مثل اللوكي أو روثمان من دون أن يجد لهذين الصنفين مكاناً في حملته الإعلانية.
فاذا كانت دعايات مارلبورو وونستون شهيرة فان دعاية (الناعورة)، وهو تبغ سوري رديء شهيرة أيضاً. وهي دعاية شفوية اخترعها المراهقون بل وكتبوها على سبورات المدارس: (دخن الناعورة وتمتع بالسعال الديكي). وظلت دعاية (الناعورة) شهيرة حتى ظهر دخان أردأ اسمه (فرات) ولكن المراهقين لم يحاربوا هذا النوع لأنه كان رخيصاً جداً وبالتالي متاحاً لهم. ولكنهم لم يعودوا إلى إهانة (الناعورة) الذي كان الدخان المفضل للعجائز بعد (الحموي) أو (غازي)، وهي ماركات للتبغ الفلت.
وعلى الرغم من حرب الشوارع التي عاشتها مدينة حلب في أواخر السبعينات وبداية الثمانينات بين الوحدات الخاصة السورية الموالية للدولة وجماعة الإخوان المسلمين، فان سوق الدخان بقيت مزدهرة، بل وأضافت الدولة صنفاً جديداً هو (الحمراء الطويلة) بعدما كانت سيجارة الحمراء القصيرة هي المفضلة لدى الطبقة المتوسطة وطبقة العمال.. والفلاحين والعساكر. أما عناصر الوحدات الخاصة فكانوا يدخنون المارلبورو والونستون نظراً لسهولة تهريبه إليهم من لبنان، وبأسعار رخيصة. وكانت العادة الدارجة لدى مدخني المارلبورو هو حملهم العلبة والولاعة بأيديهم، على الرغم من وجود الجيوب في قمصانهم!!
طبقات المدخنين
كانت أصناف التبغ موزعة على شرائح المجتمع كافة. «فالكنت مشروب البنت» دلالة على أن النسوة يفضلن الكنت. أما البولمول فهو دخان سائقي الشاحنات وهو أكثر أنواع الدخان تلقياً للمديح، حتى من الذين يدخنون أصنافاً أخرى. أما الونستون فهو دخان الحشاشين، نظراً لقوة جرعته النيكوتينية، بينما المارلبورو دخان الميسورين. فما الفائدة من الأموال إذا لم تدخن المارلبورو؟..
وفي عام 1986 بدأت الامبراطورية الرباعية التبغية بالانهيار بسبب شح السيولة المادية في البلاد. وتم الانهيار عام 1987 مع الحصار الاقتصادي على سورية وبدأت أزمة الدخان فعلياً بالظهور: لا يوجد دخان أجنبي. فالدولة لم تعد تستورد، والمهربون يواجهون صعوبات كبيرة والليرة السورية انهارت أمام الدولار والغلاء تفشى والمواد الاستهلاكية ندرت.
وفي ظل هذه الأزمة تراجعت الإمبراطورية الرباعية «الكنت والبولمول والمارلبورو والونستون»، لعدم قدرة المواطن السوري على شرائها، وتقدمت أصناف جديدة رخيصة جداً، فيما لم تعد علب الحمراء القصيرة والطويلة تلبي حاجة السوق وحدها بسبب إقبال الجميع عليها، فأصبحت السيجارة الوطنية تباع في السوق السوداء وبضعف ثمنها، ما أدى إلى ازدهار أنواع جديدة من الدخان المهرب الرخيص مثل، (مونت كارلو) وهو من إنتاج شركة ونستون ذاتها، وكذلك الـ (بوند) وهو من إنتاج فيليب موريس، بالإضافة إلى ازدهار الفيسروي في دمشق والـ LM في حلب. وينعدم وجود الفيسروي في حلب بسبب إشاعة حلبية بحتة عن كون هذا الدخان إسرائيلي، يسبب العقم للرجل. وكذلك الأمر بالنسبة للـ LM في دمشق حيث أنه يسبب العقم أيضاً. وهكذا فان المدخنين في حلب سيتمتعون بالـ LM من دون أن يصابوا بالعقم في حين يتلذذ الدمشقيون بالفيسروي من دون أن يحدث لهم شيء أيضاً. ولكن... إياك أن تدخن الـ LM خارج حلب!..
ومن لبنان أتى «السيديرز» إلى دمشق فقط، وبقي مجهولاً في حلب إلى الآن، كما ظهرت كميات ضخمة من دخان يعود إلى الخمسينات «طاطلي» في حلب وكذلك الأمر في دمشق، ولكن من نوع شعبي آخر هو «البافرا» وفي الفترة نفسها ظهرت من مستودعات الغيب ماركتا عرق وطني قديمتان «ملوكي» و«كبريتة».
ولكن الدولة لم تستكن ولم تستسلم فبدأت بمحاولة (الاكتفاء الذاتي) لذلك قامت بإنتاج أنواع جديدة من الدخان (الفاخر) و(الحديث) و(اللايت) لتقف بجانب البطل الوطني (الحمراء) بشقيه (القصيرة والطويلة). ولكن هذه الأنواع الجديدة لم تصمد وأثبتت فشلها بعد سنوات. فدخان (الاوغاريت) الذي صنع ليكون بديلاً محلياً للكنت الأميركي فشل في سباق الدخان الماراتوني، وسقط لأسباب كثيرة منها عدم لصق الفلتر جيداً. فكنت ترى مدخن الأوغاريت وهو يعاني في إمساك السيجارة وتدخينها من دون سقوط الفلتر، بينما فشل نوع جديد يدعى (أفاميا) في الصمود لأكثر من عشرة أشهر، في حين استمر «إيبلا» حتى الآن من دون أن ينال شهرة تذكر أمام (الحمراء).
ومع انتهاء الأزمة في بداية التسعينات عاد «البولمول» إلى الساحة ولكن برفقة اللوكي هذه المرة، في حين بقي الكنت مختفياً من السوق بسبب قلة راغبيه، وتابع المارلبورو طريقه مع أصحاب الأموال والميسورين، وبدأت لغة جديدة مع عودة الدولة إلى الاستيراد. فالدخان المستورد اسمه (غوته) نسبة للشركة السورية العامة المستوردة (غوته). والدخان المهرب من لبنان اسمه (وزاري) وذلك لوجود جملة بالعربية مكتوبة عليه (وزارة الصحة تحذرك من التدخين... الخ)، أما النوع الثالث فهو (الأصلي) أي المهرب تهريباً خالصاً.
ومع مرور الزمن صار هناك المارلبورو البلغاري والقبرصي، بل وظهر المارلبورو السوري، وهو عبارة عن عبوات مغشوشة تصدر من حلب، فبدأت الحيطة في شراء التبغ الأجنبي إلى أن انتهى الأمر بإعادة الثقة للدخان المستورد (غوته) على اعتبار انه الأكثر أماناً. إلا أن الدخان الأغلى هو نوع جديد أيضاً، وهو «السعودي» أي المصدر إلى السعودية. ومع رفع شعار مقاطعة البضائع الأمريكية كشر الدخان الفرنسي عن أنيابه، فظهر (الجيتان) بأنواعه الجديدة (لايت وسوبر لايت)، وكذلك الغولواز الأزرق والأحمر. وبدأ المثقفون بالترويج للدخان الفرنسي مستنكرين وجود علب الدخان الأمريكي على طاولاتهم، فأصبح مدخن المارلبورو أو الونستون عميلاً لأمركا حتى يغير دخانه إلى الفرنسي طبعاً. وصار بإمكان المتفرج أن يعرف الموالي لغزو العراق أو المناهض لهذا الغزو من علبة دخانه، وظهر مصطلح (الوطنية) بقوة وبخاصة من الشيوعيين مرفقين حملتهم الوطنية هذه بوضع علب الجيتان والغولواز أمامهم على الطاولات بفخر واعتزاز.